يبدو أن الشاعر الفذ أبا الطيب المتنبي كان يمر بتجربة فاشلة في إقناع أحدهم بأمر ما كان يعتقده من المسلمات ، فخرج بحكمته الخالدة : وليس يصح في الأذهان شيء ...اذا احتاج النهار الى دليل ويقصد بذلك أن العقول التي تطلب دليلا على ضوء النهار الذي يملأ الدنيا هي عقول سقيمة لا أمل في أن تستوعب ما دون ذلك ، فلا تتعب نفسك في الجدال معها. أستحضر الآن هذا البيت الرائع لشاعر العربية الأول وأنا أرانا نتجادل في حقائق كنا نعدها قبل سنتين فقط من المسلّمات.
فمن الذي كان يتوقع أنك بحاجة إلى أن تقنع مصرياً أن الخطر الحقيقي على حدود مصر الشرقية يأتي من إسرائيل وليس من حماس ، وأن امريكا تعادي كل من يعادي اسرائيل أو يهدد أمنها القومي سواء كان هذا التهديد عاجلا أو آجلا - كما هو الحال في مصر الآن - ، وأن كلا من غزة ومصر يعد بعداً أمنيا استراتيجيا للآخر ، وأن قوة حماس من قوة مصر والعكس صحيح.
ومن الذي كان يفكر أنه سوف يأتي اليوم الذي يتحول فيه الحبس والاعتقال في سجون مبارك من بطولة حقيقية يشعر المرء بالفخر بسببها إلى عار يُرمى به صاحبه من فضائيات تقلب الحق باطلا والباطل حقا ، يحدث هذا الآن مع رئيس الجمهورية.
من كان يتخيل أنك بحاجة لبذل الجهد كي تبين أن المخلوع مبارك لم يفسد وحده ، وأن هناك عشرات الآلاف من الفاسدين في الأجهزة الأمنية والسيادية والقضائية وباقي الوزارات ، هؤلاء بلغ فسادهم حدا لم يحتمله المصريون فقاموا ثائرين ، وهم الآن يستميتون في ثورتهم المضادة دفاعا عن منظومتهم الفاسدة وحفاظا على ما نهبوه من اموال الشعب ، ولا سبيل لنا لعبور هذه المرحلة الحرجة إلا بالاتحاد والصبر والبناء ، وليس صرف الجهود في جدل سياسي محموم سوف ندفع جميعا ثمنه.
لم يتوقع أحد أن يأتي اليوم الذي نحتاج فيه لأن نؤكد على أن المخلوع الفاسد خلّف ورائه تركة ثقيلة من الفساد المقنن والذمم الخربة والأخلاق المشوهة والاقتصاد المنهار والمجتمع المتفكك وكوارث تحتاج إلى سنوات وسنوات من العمل المتواصل والجد والإنتاج ، وليس 100 يوم أو سنة أو أربعة.
لم يتخيل أحد أننا سنكون بحاجة يوما ما لأن نذكّر بأن المخلوع الفاسد كان كنزا استراتيجيا لأعداء الوطن وكارهيه في الخارج ، ووصل ببلده إلى مستوى غير مسبوق من التبعية والعمالة والانبطاح ، سوف يكون من الصعب على هؤلاء الأعداء التفريط فيه والتعاطي بسهولة مع أي نظام بديل يحاول الاستقلال بقرار مصر وسيادتها بعيدا عن حساباتهم الخاصة ، ناهيك عن محاولة تركيعه بطرق مختلفة مرة بالاقتصاد وأخرى بالمياه وغيرها.
لم يتخيل أحدنا أن يأتي يوم على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا في قلب الثورة وسالت دماؤهم دفاعا عنها وعن شركائهم فيها – بشهادة العدو قبل الصديق - ليتحدثوا عن وطنيتهم وحبهم لبلدهم وانتمائهم له ، وأنهم لم يلاقوا ما لاقوه من عنت وتجبر من أنظمة قمعية متعاقبة عبر عشرات السنين إلا ابتغاء وجه ربهم أولا ورجاء الخير لبلدهم ثانيا.
أعتقد أن المتنبي لو رأى حالنا الآن لوجد أن هناك حقائق لعلها أشد وضوحاً من ضوء النهار ، لكن للأسف قابلتها عقول سقيمة تسأل عن دليل.