المأساة الوطنية، كما وصفها قانون السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر، مصطلح "وسطي" أكثر منه قانوني، وفكرة ذكية من الرئيس لحصر الخلاف بين الإخوة الفرقاء في البلد الواحد، إذ إنه وضع الكل في كفة واحدة، ولم يزج بالبلد في متاهات الماضي، كما لم يقف مع جهة معينة على حساب طرف آخر. وهو نقطة الارتكاز لقوة هذا الإجراء، الذي استجاب له الشارع الجزائري بقوة لم يشهد لها تاريخ استفتاءات الجزائر شبيها، مانحا الرئيس الجزائري هامش واسعا من التحرك والمرونة لطي صفحة العشرية الحمراء. وقد بادر عدد من قادة جماعات العنف في الجزائر الميدانيين بتزكية مبادرة السلم، وكانت نتائجها ملموسة وفي وقت قياسي، وهو ما يترجم الفرق بين القادة السابقين المعروفين، وكيف تعاملوا وتفاعلوا مع مبادرة إطفاء نار الفتنة التي مزقت، واعون تماما بما يفعلون وما يقولون، وكان استدراكهم إيجابيا وحساسا، بخلاف القادة الحاليين لجماعات العنف، وهم أصلا نكرات ومجهولو الحال، ولم يكن لهم أي أثر، وجدوا الفرصة لصناعة اسم للبروز، وهو ما يفسر عدم استجابتهم لتدابير قانون المصالحة الوطنية، التي تعد مطلبا شعبيا قبل أن تكون فكرة سلطة، بل ازدادت نشاطاتهم الإرهابية التي لم يجد لها حتى من كانوا معهم في السابق أي تفسير ولا مبرر، ويستعملون أساليب إجرامية، وما أحداث جبال "سدات" الأخيرة بأعالي ولاية سكيكدة، حوالي 4 كلم شرق العاصمة الجزائرية، عنا ببعيد، وما فعلوه بالنساء والأطفال بوضعهم متاريس أمامية في المغارة المتحصنين فيها، وهو ما تفطنت له عناصر الجيش المطارد لهم، وفضلوا الحصار على اقتحام المغارة خوفا على أرواح الأبرياء ممن وضعوا كدرع لهذه المجموعة الإجرامية. لكن، إذا اعتبرنا أن بقايا جماعات العنف هذه، التي تفننت في أساليب الإجرام، قد استبد بعقول عناصرها الفكر العدمي والقتل الطائش والعبثي، ماذا يمكن القول بالنسبة لبعض قادة الإنقاذ في الداخل والخارج، الذي طعنوا في جدوى مبادرة السلم وميثاق السلم، بحجة أن الحقيقة تسبق المصالحة، وهم يدركون قبل غيرهم أن الحقيقة التي ينادون بالكشف عنها، تعني عمليا، إطالة أمد الأزمة وفتح جبهة جديدة من الصراع لا قبل للجزائر بها، وهي تحاول استرجاع عافيتها، ثم عن أي حقيقة نتحدث؟ عما تروج له فرنسا ولا تزال تثيره في كل توتر مع الجزائر: من قتل من؟ أو عن القابلية لتأزيم الأوضاع أو الدفع بها نحو الانسداد من طرفي الصراع في سنوات التسعينيات من القرن الماضي؟ إذن، وبعد فك أعقد الشفرات في المأساة الوطنية، بإطلاق سراح قيادات العنف المسلح، والتي كان لها دور محوري في إنشاء الجماعات المسلحة في الجزائر، أو من شكلوا القوة "اللوجستية" لهذه التنظيمات، نجد أن عددا من بقايا قادة الإنقاذ في أوروبا أو المهجر عموما وكذا الداخل، يتحصنون في قلاعهم العاتية، متمسكين بخطاب المناكفة والمغالبة، مشككين في مسعى المصالحة، متشبعين بعقلية الأزمة، رغم أن الفرقاء في هذا البلد يجمعون أن الجزائر اليوم تسير بخطى "حذرة" نحو الاستقرار والسلم، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا بعض غلاة العلمانيين واليساريين والإسلاميين من بقايا الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة. ولعل ما يعاب على بعض القادة السياسيين لجبهة الإنقاذ، هو تنصلهم عن المسؤولية التاريخية في تحمل أعباء الأزمة وأوزارها بمعية النظام. ففي الوقت الذي تحلت فيه السلطة بالشجاعة في تحمل الجزء الكبير من المأساة الوطنية وأعباء السلم، نجد الطرف الأخر في المعادلة السلمية، ممثلا في جبهة الإنقاذ المحظورة، غائبا إن لم يكن، أحيانا، كابحا ومتحفظا، وفضلت قيادة الإنقاذ التاريخية الانكفاء، وترك السلطة في مواجهة آثار الأزمة لوحدها، رغم أن الجبهة الإسلامية شريك أساسي في الأزمة، وهذا في حد ذاته هروب من المسؤوليات، التي كان لزاما أن تتحملها. فمن غير المعقول أن يبادر الرئيس بإيجاد مسالك ومخارج لفك طلاسم هذه الأزمة، وهو الغائب عن كل التفاصيل السابقة، ويتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية لحل خيوط هذه المأساة، فقط لأنه الحاكم الحالي للبلاد، بينما الطرف المحوري، والذي تلازم اسمه مع كل ما هو عنف وتقتيل، يتنصل من أي مسؤولية أو يمتنع عن مد يد المساعدة في المشاركة على الأقل لحفظ ماء وجه الإسلاميين. المصدر : العصر