مشروع القرار الذي يناقشه الكونجرس الأمريكي، والمزمع إقراره في الفترة المقبلة، والخاص بمعاقبة الأقمار الاصطناعية العربية التي تسمح ببث قنوات تعتبرها واشنطن معادية لها، مثل قنوات: "المنار" اللبنانية و"الرافدين" و"الزوراء" العراقيتين، و"الأقصى" الفلسطينية، هذا المشروع يثير التعجب بل والسخرية في آنٍ واحد، ويكشف الكثير من الأكاذيب الأمريكية، ويؤكد أن الغطرسة والغرور الغربي والأمريكي واستهزاءهما بحقوق الشعوب الضعيفة والمغلوبة على أمرها لا يقفان عند حد. وإذا كان منطق العلاقات الدولية يؤكد عبر التاريخ أن الطرف القوي والمنتصر في الساحة العالمية يفرض قوته وسطوته على الآخرين، فإن الملاحظ أن فترة الصعود والانتصار والهيمنة الأمريكية، كقائدة وزعيمة للحضارة الغربية، ربما لم تشهد البشرية لها مثيلاً في الظلم والكذب والتدليس والرغبة المستمرة في إذلال الشعوب وممارسة القوة ضدها حتى تدخل بيت الطاعة الأمريكي ذليلة منكسرة، دائرة في فلك القوم، مسبحة بحمدهم، منفذة لأوامرهم. وشاء الله سبحانه وتعالى أن يبتلي العرب والمسلمين، ويجعلهم من أول الأمم التي تكتوي بنيران الظلم الأمريكي، لأن الجسم الغريب "إسرائيل" الذي زرعه الغرب بقيادة بريطانيا، يعتبره الأمريكان الابن المدلل الذي يأمر فيطاع. ومن أجل توفير الحماية الكاملة لهذا الكيان، فإن الآلة الأمريكية تتحرك (سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وإعلاميًا) من أجل حمايته وجعله أكبر قوة في المنطقة. مشروع القرار المذكور يُظهر تناقض الأمريكان، فهم يتشدقون بدستورهم وممارساتهم وقوانينهم التي ترعى حرية الفكر والتعبير والاعتقاد، وفي نفس الوقت ينتقدون شعوبنا التي لا تُقِرُّ هذه الحريات ولا ترعاها ولا تحترمها، لكن حينما يتعلق الأمر بمصالحهم وارتباطها بأحبائهم من بني صهيون فإن القوم يديرون ظهورهم لأي قانون ولأي خلق ولأي منطق ولأي عدالة. حينما وجد الأمريكان واليهود أن هناك شيئًا واحدًا مازال يدار بطريقة مخالفة لتعليماتهم وأوامرهم ورغباتهم تحركوا من أجل إكمال منظومة الأوامر. حينما وجدوا أن هناك بعض القنوات الفضائية القليلة والنادرة التي تأبى أن تكون نموذجًا مكررًا لنموذجهم الإعلامي الذي يوصون به ويدعمونه في العالم العربي، وهو نموذج الإثارة والعري والابتذال والتعتيم وتضليل الناس وإبعادها عن مشاكلها الحقيقة وتزييف وعيها حتى لا تعلم حقوقها وحتى تخلط بين عدوها وصديقها.. حينما وجد القوم أن هناك عدة قنوات، لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، ترفض الظلم والعدوان والاحتلال والاغتصاب وترفض الكذب والتدليس وتؤسس لحركة وعي في العالم العربي ضد المشروع الصهيوني وجرائمه وضد مشروع الهيمنة الأمريكي وكوارثه.. حينما وجدوا ذلك ثارت ثائرتهم وجُنَّ جنونهم وأبوْا إلا أن يوقفوا هذه القنوات بقوة القانون. ومن هنا جاء مشروع القانون "الأضحوكة" المقدم إلى الكونجرس الأمريكي لمعاقبة الأقمار الصناعية التي تحمل موجات هذه القنوات الفضائية، بحجة بث الكراهية ضد الشعب الأمريكي والتحريض عليه، مما يعرض بزعمهم أمن الأمريكيين وسلامتهم للخطر، وبزعم أن هذه القنوات التليفزيونية تساعد المنظمات "الإرهابية" في وظائفها الرئيسَة؛ من تجنيد العناصر وجمع التبرعات والدِّعاية. وحجتهم هذه كلها تدليس وتلبيس وخداع للعالم كله؛ فالمتابع لهذه الفضائيات لا يجد فيها مطلقًا أية كراهية ضد الشعب الأمريكي، بل إنها تعتبره شعبًا أسهم بقسط وافر في الحضارة الإنسانية، وكل ما تعترض عليه هو أنها ترفض خطط قادته العدوانية التي تأكد العالم من أنها كانت مدبرة بليل، كما هو الحال في مسرحية العدوان الأمريكي على العراق، بحجة أن النظام العراقي يخفي أسلحة الدمار الشامل (التي تهدد أمن العالم وتهدد معه أمن الأمريكيين وسلامتهم)، ثم ثبت بعد ذلك (وباعتراف المؤسسات الأمريكيةوالغربية) أن هذا المبرر وهذه الذريعة كانت محض اختلاق لإدارة بوش الابن، وتواطأ معه فيها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. ويستطيع كل الخبراء العالميين، وكل المنظمات المختصة في العالم، وبميزان الرصد الأوربي من قبل المنظمات المهنية المحايدة، أن تتأكد من الرسالة التي تبثها هذه القنوات، وأنها مجرد جهد تعبوي لمقاومة المحتل والمعتدي على حقوق شعوبها، مع فضح سلوك الاحتلال الصهيوني والأمريكي وفظاعاته في بلاد العرب والمسلمين، من تقتيل للمدنيين حتى في أفراحهم وجنائزهم، ومن استهداف للنساء والأطفال والشيوخ، ومن تدمير المنازل ومصادرة الأراضي، وتلويث الأجواء بالإشعاع النووي، مما يضع هؤلاء الاحتلاليين تحت طائلة القانون الدولي الإنساني والمعاهدات الدولية من اتفاقيات جنيف إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ومشروع القانون الأمريكي العجيب في حال صدوره، يعتبر جريمة أخلاقية غير مسبوقة، وعدوان على حقوق شعوبنا وحرياتها، بل إعلان حرب على هذه الشعوب، حينما يرتب عقوبات على مشغلي الفضائيات، وعلى الناقلين عبر الأقمار الصناعية، ويضعهم جميعًا في خانة منظمات "الإرهاب"، ويطالب باتخاذ إجراءات عقابيَّة ضد مَانِحِي خدمات القمر الصناعي، الذين يبثون هذه القنوات، أو أي محطة أخرى يملكها ويشغلها "إرهابيون"، بحسب نص مشروع القانون، الذي يحث الحكومات والمستثمرين على حظر بث هذه القنوات، وعدم الاستثمار لدى مانحي خدمات القمر الصناعي الذي يبثُّها. مشروع القانون الأمريكي غير المسبوق في ظلمه وجبروته، يُظهر مدى الغيظ والحنق الذي يشعر به قادة مشروعي الغطرسة الصهيوني والأمريكي ضد هذه القنوات التي أبت أن تطيع وتستسلم، فالاحتلاليون يعلمون تمامًا أنهم ظالمون وقتلة وأنهم يرتكبون كل يوم جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة، التي يتهمون بها قادتنا المقاومين مثل عمر البشير، ويزعجهم أن تفضح هذه الفضائيات جرائمهم وما يقومون به من عمليات عسكرية وحشية، ويزعجهم أكثر أن يكون لدور هذه الفضائيات رد فعل في الشارع العربي، من حيث التجاوب معها والاقتناع بأهمية دورها والاقتناع ببشاعة جرائم المشروعين الصهيوني والأمريكي، فالظالمون والمحتلون والغاصبون واللصوص عادة ما يحبون أن يرتكبوا جرائمهم في الظلام دون أن يشعر بهم أحد، بعد أن تحالفت معهم وتواطأت معهم أنظمتنا السياسية العربية، ولذلك جُنَّ جنونهم وهم يروْن الدور الإيجابي الذي تقوم به هذه القنوات في فضحهم أمام العالم وكشف كذبهم وجرائمهم وتناقض دعاواهم. يدرك الأمريكان أن قناتي "الزوراء" و"الراقدين" كشفتا جرائمهم في العراق، وفضحتا دورهم في تدمير الحياة والحضارة في بلاد الرافدين، وأبرزتا دورهم الخبيث في تغذية ومساعدة المشروع الطائفي تفتيتًا للعراق وخدمة لبني صهيون، وأزعجهم قبل ذلك وبعده أن تعرِّي هاتان القناتان دعاوى القوم وتعتيمهم على عمليات المقاومة العراقية البطلة، حينما تذكر تفاصيل عمليات المقاومة المستمرة وخسائر الأمريكان من جرَّائها والأعداد الحقيقية للنعوش الطائرة التي تحمل جنود الاحتلال، مما يحرك الرأي العام الأمريكي ضد إدارته التي تسوق الشباب الأمريكي إلى مذبحة لم يكن لها ما يبررها إلا تطرف القادة الأمريكيين وعدوانيتهم ودونيتهم أمام الأوامر الصهيونية. ويدرك الصهاينة والأمريكان أن قناة "الأقصى" وأخواتها، فضحت وتفضح المشروع الصهيوني وجرائمه اليومية في فلسطينالمحتلة، وأنها تنشر وتؤصل لثقافة الجهاد والمقاومة وتحببهما للشباب، وتضح في الفلسطينيين روح الوعي الحقيق بقضيتهم، وأنهم لن يحرروا أرضهم إلا بمقدار ما يقدمونه من دماء وتضحيات. وكان الغيظ الصهيو – أمريكي مضاعَفًا من هذه القناة وأخواتها بعد التصدي لأكذوبة "أوسلو" وما ترتب عليها من عملية سلمية زائفة هدفها الأوحد الالتفاف على مشروع المقاومة وإفساده. وإذا كان الأمريكان، كعادتهم دائمًا، يقلبون الحقائق إذا تعارضت مع مصالحهم وأهوائهم وقد وضعوا كل من يدعو أو يؤيد المقاومة أو يمارسها في خانة "الإرهاب" و"الإرهابيين"، وتفننوا ويتفننون في مقاومة هؤلاء المقاومين ومشروعهم وثقافتهم لدرجة إهدار دمائهم وأموالهم، في ظل فشل كامل وتخبط في تعريف "الإرهاب" وإخبارنا بالحدود الفاصلة بينه وبين المقاومة.. فإن حنقهم وغيظهم من فضائيات المقاومة جاء بعد أن قدمت للعالم كله الدليل والبرهان على أن مقاومة مشاريع العدوان والظلم والغطرسة والاحتلال في فلسطين والعراق وأفغانستان ليست إرهابًا، بل هي المقاومة التي تقرُّها الأديان والقوانين والأعراف من أجل انتزاع الحقوق المغتصبة. كان الأمريكان والصهاينة مسرورين وراضين عن الإعلام العربي الرسمي والإعلام العربي الخاص التافه الذي يغرق الأمة في الشهوات والشبهات ويضللهم ويغيِّبهم عن قضاياهم الحقيقَة، لكن سرورهم ورضاهم انقلب إلى قلق وعدم ارتياح، ثم إلى غيظ وحنق ورفض، ثم تنادَوْا إلى حتمية المواجهة وإسكات هذه الأصوات مهما كان الثمن خصمًا من مصداقية القوم وصورتهم أمام العالم. فالقوم لا يمكن أن يقبلوا بالدور الذي لعبه ويلعبه الإعلام العربي الجاد، الذي كسر الحواجز، واقتحم المحظورات الحكومية، وزلزل صورة الأنظمة السياسية العربية، وأتاح للجماهير العربية لأول مرة أن ترى الأحداث السياسية العربية على الهواء، وأن ترى مواقف قادتها الحقيقية بدون تزييف الإعلام الرسمي، كما أتاحت لهذه الجماهير أن ترى مسلسل العدوان الصهيوني المستمر في فلسطينالمحتلة على الهواء مباشرة بدون رتوش أو تصرف أو إخفاء للحقيقة، وأن ترى العدوان الأمريكي على العراق لحظة بلحظة، وأن تشاهد جريمة تدمير "الفلوجة" بالصوت والصورة. والكارثة الحقيقة أن الجامعة العربية وكل منظومة الإعلام العربي الرسمي، والتي تتظاهر برفض مشروع القانون الأمريكي ومواجهته، لن تستطيع أن تفعل شيئًا في نهاية المطاف، لسبب بسيط وهو أن فاقد الشيء لا يعطيه، فما زال الرأي العام العربي يتذكر جيدًا ما فعله مجلس وزراء الإعلام العرب التابع للجامعة، والذي أصدر وتبنى "وثيقة الفضائيات" المشبوهة في فبراير عام 2008م، تحت مسمى "ميثاق الشرف الإعلامي العربي"، والتي أدى تطبيقها إلى إغلاق عدد من الفضائيات، ومنع أخرى من البث على القمر المصري "نايل سات" والقمر العربي "عرب سات"، وإقرار مجموعة من الخطوات العقابية للقنوات الفضائية التي تنتقد الزعماء العرب، وتتحدث عن فسادهم، مثل إغلاق مكاتبها، وإزالتها من الأقمار الصناعية العربية، وفرض غرامات كبيرة عليها، ولم يتحفظ على هذه الخطوات إلا ثلاث دول فقط، هي لبنان وقطر والجزائر. وهنا تبدو مشكلة الشعوب العربية الحقيقة، وهي أنها محصورة بين "مطرقة" أنظمتها العربية الاستبدادية وقوانينها المكبلة للحريات، وبين "سندان" الهجمة الأمريكية الصهيونية المكملة ل"مطرقة" الحكومات العربية، والمنسقة والمتفاهمة معها ومع خططها الاستبدادية. المصدر: الاسلام اليوم