نعم، طبعا أعرفه، لقد كان زميلي في الدراسة .. زاملته في العمل .. قابلته وجلست معه .. لقيته عدة مرات .. رجل طيب ... له به صلة قديمة .. صديقي في العالم الافتراضي .. صاحب رأي. إلى آخر هذه التعليلات التي نسوقها لندلل على معرفتنا بالمسؤول عنه. لكن في الحقيقة كثيرا ما تخيب ظنوننا، ونصدم صدمة العمر فيمن اعتقدنا أننا نعرفه حق المعرفة، فأثبتت الأيام أنه عقيدتنا فيه فاسدة، وأننا لا نعرف عنه شيئا، بل نعرف إنسانا آخر، إنسانا متوهما في أذهاننا نحن، وليس من لحم ودم يمشي على قدمين. وعلى رأي المثل: من تحسبه موسى يطلع فرعون. إنه فرعون في داخل نفسه، إنه فرعون ولكن يجد من يرده، إنه فرعون لم تواته الفرصة بعد ليتفرعن، حتى يبلغ الغاية، ولا يري الناس إلا ما يرى، ولا يهديهم إلا سبيل الرشاد. نلوم على من ظننا أننا نعرفه، أنه كان .. ثم صار .. أننا عددناه صديقا فاتخذنا خصوما أو أعداء، أننا حسبناه يضمر لنا الخير كما نفعل نحن فلم يكن في طويته إلا الحقد والحسد، أننا أحسنا إليه فقابل الحسنة بالسيئة، أنه خائن غادر حقود حسود ناكر للجميل، ومثل هذا لا يلام. والأحق باللوم هي أنفسنا التي بين جنبينا، التي أوتينا من قبلها، هي ثقتنا الزائدة في رؤيتنا، هي مبالغتنا في قدرتنا على معرفة الناس، والتفرس في وجوههم، والنفاذ إلى دواخل أنفسهم، بينما لم نر في الحقيقة إلا ما أحببنا أن نراه أو ما أحب هو أن يرينا إياه. ولعل مما يخفف وقع الصدمة على المصدوم، ما روي في الأثر: اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن أصبت أهله فهو أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله. فأنت كإنسان يحترم نفسه مطالب بأن تصنع المعروف، وتبذل الخير، وتحسن إلى الناس كل الناس، لا خيار لك في ذلك. وهبك علمت ما بدخيلة نفس من ظننته صاحبك، هل كنت ستبدأه بالعدوان، أو تبادره بالإساءة، أو تهبط إلى حضيضه، ما الفرق بينك وبينه إذن؟ قد تكون محقا، لو قلت: سأبتعد عنه، و(يا نحلة لا تقرصيني، ولا عاوز منك عسل). كما يقال. والعمدة في هذا الباب هو موقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فقد شهد شاهد عنده رضي الله عنه، فقال عمر: ائتني بمَن يعرفك. فأتاه برجل فأثنى عليه خيرا. فقال عمر: أنت جاره الأدنى، الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا. فقال: كنت رفيقه في السفر، الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ فقال: لا. قال: فعاملته بالدينار والدرهم، الذي يستبين به ورع الرجل؟ قال: لا. قال: أظنك رأيتَه قائما في المسجد، يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه طورا ويرفعه أخرى؟ قال: نعم. فقال: اذهب فلستَ تعرفه. وقال للرجل: اذهب فائتني بمَن يعرفك. ولا يقصد الفاروق حصر معرفة الناس بهذه الطرق الثلاث: الجيرة، والسفر، والمعاملة بالنقود. كما قد يظن البعض، وإنما هي نماذج للمنعطفات التي تكشف عن معادن الناس من منهم ذهب ومن منهم صفيح، من منهم ماء ومن منهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، إنها البيان العملي لا الدعوى النظرية، إنها الطبيعة والسليقة لا التصنع والتكلف، إنها الاختبارات التي تقيمها مدرسة الحياة للناس من غير ترتيب، فينجح البعض، ويرسب آخرون. أن يكون فقيرا ثم يغتنى، أن يكون مغمورا ثم يشتهر، أن يكون ضعيفا ثم يقوى، أن يكون صحيحا ثم يمرض، أن يكون معافا ثم يبتلى، والعكس في كل ذلك صحيح. فهذه وأمثالها تعرفك حيقية الإنسان، أو بالأحرى تثبت صدق ظنك فيه أو خيبته. ولا تحزن يا صديقي إن خاب ظنك في البعض، فقد صدق في آخرين، وفيهم عِوَض، وهذه هي الأيام حبلى بكل جديد، وهذه هي الحياة منذ أن دب آدم على وجه الأرض، وهذا هو جانب الشر في الإنسان، ولن تكون خيبة ظنك كمثل خيبة ظن من سموه (هابيل) في ابن أمه وأبيه الذي سموه (قابيل)، وستجد لك في كثير من شعر الشعراء عزاء، كمثل قول ابن الرومي: وإخوان تخذتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقو ولكن من ودادي فهل نحن حقا نعرف الناس، بل هل نعرف حقيقة أنفسنا؟ أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]