.. ومن أعراض الفرعنة كذلك أن يكذب فرعون صباحا ويصدق نفسه مساء، أو بالأحرى يغرى شيعته بالكذب ثم يصدقهم «... أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» (18 هود). هؤلاء الذين يكذبون حتى على أنفسهم، يذكرك هؤلاء بما روى عن أشعب الطفيلى أن الأطفال اجتمعوا عليه يؤذونه فأراد أن يتخلص منهم فقال لهم: إن هناك فرحا وموائد وطعاما شهيا فى دار بنى فلان، فانصرف الأطفال عنه وذهبوا إلى دار فلان، فإذا اشعب يتبعهم فقيل له لماذا تتبعهم وقد انصرفوا عنك؟ قال ظننت أن يكون كلامى فألا حسنا فأدرك الطعام معهم.. أرأيت كيف يصدق الكاذبون أنفسهم! هكذا يكذب فرعون وشيعته، فهاهم ملأ فرعون وقومه يحشدون السحرة وهم يدعون أن موسى ساحر عليم (يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُون) (الأعراف) كذلك ترى وتسمع قول فرعون (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (الأعراف). كيف تملك فرعون مصر؟ هل اختاره الناس اختيارا صحيحا وصريحا دون ضغوط أو تزوير؟ هل مصر وأهلها حجارة تورث؟ هل اشتراها؟ إن البلاد لا تشترى، والعباد (عباد الله) لا يباعون ولا يشترون، إن الذين يسمعون هذا الهراء ويسكتون هم أهل لكل لعنة ومستحقون لكل عقوبة فها هو القرآن يصفهم بالظالمين (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ) (10 الشعراء) ثم يصفهم القرآن بأنهم فاسقون (أَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِى تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (12 النمل) ومن مظاهر الاستخفاف بالناس أن ترى فرعون وتسمعه دائما يعلن: تفرده بصنع الأحداث، وتعوده مفاجأة الناس بما يقرر إنه بمفرده يفكر، وإذا احتاج فالذين اصطفاهم حوله من ملئه وشيعته فيهم الكفاية أن يعرضوا عليه، وهو يقرر.. فهو وحده صاحب الرأى الثاقب، والنظر البعيد بل هو وحده القادر على تحمل المسئولية وجميع الشعب من غيره وغير شيعته إما عجزه أو يخشى منهم على البلاد والاستقرار. ثم ترى طوابير السفهاء فى شيعته يعلنون عدم درايتهم متى فكر الفرعون فى ذلك، ثم ترى طبقات متراكمة من السفه والتدنى مزهوة بأن كل حركة وسكنة فهى من بنات أفكار سيدهم الفرعون وها هو الفرعون يعلن سقوط كل حق لكل إنسان فى أن يفكر أو يغير أو حتى يقترح فانظر إلى القرآن يصور هذا القابع على عرش مصر(...مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (29 غافر). كلما قرأت القرآن وجدت فرعون أمامك يتحكم فى مصائر جميع الشعب بداية من الوليد حديث الولادة فيأمر بقتله أو إبقائه على قيد الحياة، ومرورا بالنساء لابد من إذلالهن بكل وسيلة لابد من إنهاك قواهن حتى لا يشعرن بلذة الحياة، ولا يربين إلا عبيداً يسيرون (بجانب الحيط) لا يلقين بالا لأى شأن عام، وكذلك الرجال يلاحقهم القهر من مداخل عديدة، فترى الرجل مقهورا بعدم القدرة على كفاية بيته أو مقهورا بالبحث عن عمل له ولأولاده، أو تراه حزينا على من يقتل من أولاده دون ذنب (وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) (الأعراف). الغريب أيضا فى الفرعون تمام إدراكه أن شيعته وملأه وسحرته جميعهم لا قدرة لهم ولا حق لهم فى التفكير أو حتى اتخاذ قرار شخصى دون إذن الفرعون (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ...) (71 طه)، هل قرأت إنكار فرعون على السحرة تفكيرهم وإهتداءهم إلى صدق موسى وصدق دعوته حينما اقتنع السحرة بصدق موسى وألوهية الآيات وأنها فوق قدرات البشر، فأعلن السحرة إيمانهم بموسى وما جاء به، فإذا الفرعون يشتد هديراً ووعيداً، وإذا السحرة يشتدون إيمانا وثقة وصبراً.