كان الحديث مع أخي وصديقي الحبيب أحمد يدور حول هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة والدروس المستفادة من هذه الهجرة ، وحين استرسل الصديق في خاطرته قال من ضمن ما قال (( إن دولة العقيدة الإسلامية نشأت أول ما نشأت في الغار غار حراء ثم بزغ فجرها على العالمين .. ذلك أن الموقف الأول للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء ، ونزول الوحي عليه ببيان آمر له شخصيا أن" اقرأ " قبل توجه الخطاب إلى الناس وإلى الذين أمنوا يعبر عن تفرد المُخاطَب من قِبَلِ المخَاطِب الأوحد ، لا يشاركه في ذلك أحدٌ من الخلق ، تفرداً يعنى اختصاصه دون غيره بتلقي بيان التوحيد ومضمون العقيدة ، ليبلغها بعد ذلك إلى جموع المؤمنين والمتبعين ممثلاً علاقة المعلم و المتعلم ، " وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا " )) استرسل صديقي وهو يقول بصوته الخافت المؤثر (( ما كان يمكن أن يشاركه أحد في غاره وهو يتحنث ، وما كان يمكن أن يصاحبه صاحب كما فعل أهل الكهف من قبل في موقفهم عندما هجروا أذى الدنيا وضيقها إلى أمان الكهف وعزلته .. كانت وحدته بالغار تمثل مفهوماً إيجابياً منتجاً يعنى اختصاصه بالبداية ، وكان تعددهم والتجاؤهم للكهف يعنى مفهوماً سلبياً مفرغاً يمثل جنوحهم للنهاية .. كانت وحدته في الغار تمثل خصوصية بينه و بين ربه في ساحة التوحيد و العقيدة ، وإنما أمره الله بعد الاختصاص والتوجيه بعد ذلك أن يجهر بدعوته للناس " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ " .. كان تفرده هذا في موقف الغار الأول تفرد المتلقي ، حيث اكتملت بعد ذلك في مكة دورة العقيدة في صدور المؤمنين ، ووضح مفهوم التوحيد في قلوب الخاشعين )) . أكمل أحمد عباراته وهو يعقد مقارنته (( تكرر مشهد الغار ثانية للدلالة على بدء مفهوم آخر بعد أن اكتمل مفهوم التوحيد و العقيدة ابتداء من موقف الغار الأول ، ولكن لم يكن الموقفان متشابهين فإنه في الغار الثاني لم يكن (صلى الله عليه وسلم ) واحداً متفرداً بل كان " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ " ، لقد قامت هنا في غار ثور ثنائية الشريعة بعد أن اكتمل تفرد ووحدانية العقيدة ، كان يلزم أن يكون له صاحب في موقفه هذا ليمثلا معاً ثنائية المجتمعات المدنية التي يلزمها شرع ينظم حياتها ، كان النبي يمثل في الحالة الثانية قائد الأمة وأميرها ، و كان أبو بكر ينوب عن الأمة قاطبة في تمثيلها في هذا الموقف المشهود ، وكأننا نرى في فراغ الغار الثاني مشهد القائد .. محمد (صلى الله عليه وسلم ) ومعه كيان الأمة كرمز في هيئة أبى بكر .)) وبعد أن فرغ صديقي من خاطرته قلت له وأنا أحاوره (( أخذتنا يا أخي في خاطرتك إلى آفاق من المتعة الذهنية والروحية وقد تأملت خاطرتك في الموضع الذي تتحدث فيه عن " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ " والعلاقة بين الحاكم والمحكوم .. تلك العلاقة التي بدأت ملامحها تظهر عند الهجرة حين أذن الله أن تقوم دولة .. لم تكن الدولة حينئذ دينية يتقدم فيها الرئيس أو الحاكم على المحكوم ويكون سيده وآمره وناهيه بل ومالكه في بعض الأحيان كما كانت العلاقة في القرون التي سبقت الإسلام .. ألم ينطق فرعون بنظريته الاستبدادية في الحكم حين قال ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ) وقال ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ليكون الحاكم هو المالك وهو المهيمن بلا رقيب ! اغتصب الحاكم لنفسه في تلك القرون صفات ليست له .. فهو الأول كما في حالة فرعون ، وهو الذي يحي ويميت كما قال الحاكم الجاهل الغبي الذي حاج إبراهيم في ربه ( أنا أحيي وأميت ) !! لننتقل بعد ذلك في ظل دولة الإسلام إلى ( ثاني اثنين إذ هما في الغار ) فكان القائد مصيره مع أمته حتى وإن كان هو النبي لا كذب سيد ولد آدم .. فهل كانت تلك الملامح يا أخي هي أول دستور في العالم كله للدولة المدنية تلك الدولة التي تختلف حتما عن الدولة الدينية ؟ حين كان موسى عليه السلام يفر بقومه من فرعون قال له قومه من بني إسرائيل في وجل وخوف وترقب ( إنا لمدركون ) أي أن فرعون سيلحق بنا حتما وقد كشر لنا عن أنيابه وبانت على البعد جيوشه فقال لهم موسى ( كلا إن معي ربي سيهدين ) وقد وجدت فارقا هنا بين خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه وخطاب موسى عليه السلام لقومه فحين قال موسى " إن معي ربي " قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " إن الله معنا " فموسى عليه السلام تحدث عن الربوبية " ربي " والنبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن الإلوهية " الله " .. ذلك أن الربوبية متعلقة بالأمور الكونية الظاهرة أمام الناس والتي يبصرونها مثل الإماتة والإحياء .. كان قوم موسى يظنون الهلاك لاحقا بهم لا محالة فأراد موسى أن يذكرهم بالربوبية التي تنفرد وتتفرد بالإماتة والإحياء فالأمر بيد رب موسى وهارون وليس بيد فرعون وهامان وجنودهما .. كان موسى يبث في ضمائرهم أن الله هو المتفرد بالخلق والأمر والملك والتدبير ، فإذا وعى القوم هذا هدأت قلوبهم الوجلة .. وفي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصديق كان يبث في روعه معنى العبودية فقال له ( إن الله معنا ) فالإلوهية تعني إفراد الله بالعبادة والتوجه إليه وحده بالدعاء والاستعانة والاستغاثة والتوكل والرجاء فكأنه يقول له لا تحزن أيها الصاحب إن الله الذي يستحق أن نعبده وندعوه والذي هجرتنا هي عبادة له هو معنا ولن يضيعنا .. كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يدرك أن حزن أبي بكر ليس على نفسه ولكنه على الدعوة والتوحيد وعبودية الخلق لله الواحد الأحد ، تلك العبودية التي توشك في ظنه أن تفنى إذا وقع النبي صلى الله عليه وسلم في يد المشركين .. وحين ذكّره النبي ب " الله " الذي هو معهم حتما ويقينا هدأت نفس صاحبه وغادرها الحزن . ثم أن موسى قدم معيته على الرب في حين قدم محمد عليه الصلاة والسلام " الله " على معيته ... موسى قال معي ربي .. سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال " الله معنا " وفي حين قال موسى إن ربه معه .. قال المصطفى إن الله " معنا " وليس معي .. فكانت دولة الإيمان عند قوم موسى مرتبطة به هو شخصيا .. مرتبطة بمعجزاته الحسية التي رأوها وعاينوها ، في حين أن دولة الإيمان في الإسلام هي دولة أمة لا دولة شخص .. دولة جماعة لا دولة فرد ... تلك الملامح هي التي شكلت مدنية الدولة حيث لا كهنوتيته ولا وساطة مدعاة بين العبد وربه .. صورة رائعة تتقدم فيها الأمة في حقوقها على حاكمها مهما كان قدره .. يرتفع فيها شأن المساواة والعدالة والحرية لكل المحكومين .. فليس من حق حاكم أن يقدم نفسه على أمته أو أن يفرض نفسه قهرا عليهم أو يعود لشعارات الفراعنة البائدة ( أليس لي ملك مصر ) وحين وعى المسلمون هذه الصورة وأشربتها نفوسهم صدح أبو بكر الحاكم العادل المدرك لأولوية الأمة فقال " إني قد وليت عليكم ولست بخيركم ) مع أنه كان خيرهم !! ومن بعده كان عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وكان عمر بن عبد العزيز .. أولئك الحكام الذين قدموا الأمة على أنفسهم في صورة تاريخية فريدة في رونقها وعدلها .. تلك هي دولة الإسلام المدنية التي بزغ فجرها من غار ثور والتي قامت ركائزها فيما بعد في المدينة وعنها أخذ الغرب بعض ملامحها عندما فهموا وليت أن من يحكمنا يفهم ولكن هيهات !! ثروت الخرباوي [email protected]