الخديوي توفيق: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحسان. عرابي: لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فو الله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم. كلمات قليلة فجرها عرابي لكنها ذات دلالات عميقة في الفكر الإنساني والسياسي فإذا أردنا الوقوف أمامها وتحليلها سنجدها تعطي دلالة وصورة واضحة للعيان للحالة المصرية وما آلت إليه البلاد وحالة الانسداد في شريان الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية؛ حيث أصبح الدم لا يجري إلا في اتجاه واحد فقط حيث الطبقة الحاكمة وسدنتها ومن يجري في فلكها. أما عامة الشعب فلا يحق لهم مجرد التفكير في استرداد حقوقهم ناهيك عن الوطن المغتصب. هكذا ثار عرابي على الحاكم المستبد تلك الثورة التي أراد بها أن ينفض غبار الاستبداد والطغيان الذي اكتست به ملامح الحياة في الوطن وأصبح أبناؤه خدامًا عند جلاديهم. حمل عرابي ورفاقه حياتهم على أكفهم ليحققوا أحلامهم المشروعة وليكونوا ضوءًا بسيطًا في النفق المظلم الطويل. وسرعان ما تشكلت أول وزارة وطنية برئاسة البارودي ووضع دستور جديد للبلاد وتمت الموافقة على كل بنوده ولكن ما هي إلا أيام وتدخلت القوى الخارجية المترصدة والمتربصة دائمًا بالمارد المصري الكبير منذ إمبراطورية المماليك وإنهيارها بعد معركة ديو البحرية أمام البرتغال ومن بعدهم تجربة محمد علي باشا التي أزعجت القوي الأوروبية الكبرى حينما لامست الجيوش المصرية مشارف حدودهم وسريعًا تداعت الأحداث وما فتئت تلك القوى تبحث عن ذريعة للانقلاب على مرحلة التنوير والاستقلال وديمقراطية القرار المصري التي بدأت تلوح مظاهرها في الأفق. لينتهي المشهد ببوارج الأسطول الإنجليزي تقترب من شواطئ الإسكندرية رافعة شارة الحرب والعدوان وكان ذلك بمباركة كريمة من الداخل متمثلة في الخديوي توفيق وحاشيته وبتأييد من الخارج في صورة الدولة العثمانية صاحبة السيادة. وهكذا تم وأد مشروع الحُلم المصري المَشّروع والذي ضحي من أجله الكثير من خيرة أبناء الوطن. وما أشبة الليلة بالبارحة فما ثورة 25يناير إلا صرخة ارتفعت في وجه الاستبداد والاستعباد الذي انتشر وفجَر في طول البلاد وعرضها لسنوات طويلة حتى صار المصري غريبًا في وطنه. وبعد نجاح ثورتهم لاحت في الأفق نسمات النور المنتظر الذي يبدد ما قبله من ظلمات وحرمان وقهر وبات الجميع على ضفاف النهر يتغنى بالأحلام التي ظلت تراودهم لسنوات طويلة حتى بدت علامات ومؤشرات لا تخطئها العين إلى أن هناك متربصين كُثر للثورة المصرية فمنهم من بالداخل ومنهم من هو بالخارج؛ فالنظام القديم ومافيا المنتفعين منه بالداخل كانوا للثورة بالمرصاد فهو الذي تجذرت قواعده في الأرض بالفساد والإفساد فرأينا الأيادي الخفية تمتد لتنشر الفوضى والقتل وترويع الأمنيين وفي نفس الاتجاه وبتنسيق محكم وكأن بينهما اتفاق غير معلن تطالعك فضائيات تقلب لك الحقائق وترسم للناس صورًا زائفة. وتصنع من الجبناء أبطالًا لا لشيء سوى أنهم يسيرون حسب المنهج والخطة. وقضاة يقفون للثورة بالمرصاد خوفًا وفزعًا من ضياع الإرث القديم الذي كان يمنحهم ما لايستحقون. وعلى الجانب الآخر من المشهد تقرأ رسالات بين الفينة والأخُرى بوجود أيدٍ خارجية تريد أن تسهم في إتمام الخطة المرسومة من أعداء الداخل فترى الإمداد والتمويل لا يتوقف بكل صوره سواء أكان ماديًا أو معنويًا. فالدور المحوري لمصر ومكانتها الجغرافية تجعلها بؤرة الاهتمام إلى جانب الخوف الكامن من استعادة دورها التنويري فتاريخها يجعلها دائمًا القاطرة المنتظرة للجسد العربي والإسلامي. وحينما تتلاقي الأهداف الداخلية والخارجية تكتمل الصورة التي يحاولون رسمها عن الثورة فتجدها مشوهة؛ فالألوان باهتة والأجزاء مبعثرة فالرسالة التي يريدون أن يبعثوا بها عنوانها الإحباط وانكسار الأمل في النفوس واليأس من الاصطلاح وما الأحلام بالتغيير التي ملأت وجدان المصريين طويلًا تتراءى لهم وكأن الوصول إليها حلم آخر حتى نكفر بالثورة والثوار ويلعنوا عرابي. الذي وقف مطالبًا بأننا أحر.