هي مَدْرسة وليست مَدْرسة.. هي بقايا مدرسة .. لكن هي مَعْلمة ! بقايا أشلاء، ودماء، وملابس ممزقة، ومقاعد محرقة، وحجرات دراسية مخربة... *** وقفتْ التلميذة سُمية، ترفع بيديها الصغيرتين حقيبتها المحترقةَ نحو الكاميرات وأجهزة البث الفضائية المحتشدة. قالت سمية: أنا أحب مدرستي ولن أترك التعليم . *** وحُشرتْ جموعُ الصحافيين بإحدى المدارس التابعة لمنظمة "الأنروا"، تلك التي نالت نصيبها من القصف الإسرائيلي . قالت سُمية وهي تلوح بحقيتها المحترقة : نحن لا نخاف ! *** بكل شجاعة؛ تصطحب الصحافيين تُعرِّفهم معالم المدرسة، وتشرح لهم باعتبارها شاهد عيان على المجزرة التي تمخض عنها مقتل عشرات التلاميذ. تشرح، تُحلل، تسنتكر، تُعلل ! قالت سمية ولا زالت مستمسكة ببقايا حقيبتها : لماذا يكرهون الأطفال ؟ *** الصحافيون تعبوا، الصحافيون مَلُوا ، ظهرت على وجوههم آثار الجَهد، كأن أرجلهم أوشكت على التحطم من شدة التجول في المدرسة المنكوبة . قال فرَّاشُ المدرسةِ وقد مر بهم : وَيْ ! كأنما يعدون مجلدًا أو موسوعة .. لا تقريرًا صحافيًا ! أما سمية .. فهي لم تتعب، ولا زالت راسخة راسية عالية! *** أخذَتهم سمية إلى مكتبة المدرسة، كانت فاجعة، مشهدٌ أشبه بمشهد الأشلاء المحترقة والمقطعة . إنها جريمة ضد الكِتاب، ضد القلم، ضد الكلمة، ضد النور. المكتبة باتت أشبه بفرن حُرِّق فيه ألفُ كتابٍ ! قالت سمية متأبطةً حقيبتها بقوة : لن يُحوْلوا بيننا وبين العلم ! *** قالت سمية : يا حُرة القلب.. يا حُرْقَة الوَجْد ! هذا كتاب العبرات للمنفلوطي، ملقىً؛ أعلاه مقطوعٌ، وأسفله محروقٌ .. ليتك حيًا يا منفلوطي لتُسَطّرَ عن غزة عَبرة جديدة من عَبَراتك ! *** قالت سمية: يا دُمُوعِي السخينة ! هذه موسوعة " المسيري " عن اليهودية، أجزاؤها متناثرة، متبعثرة كجسم إنسان ضربتُه قنبلة ! ليتَ المرض الخبيث لم يأكلك، حتى تُوّثق للتاريخ محرقة الرصاص المصبوب. *** قالت : تعالوا إلى حجرة الأنشطة .. وهناك مفاجئة ! فخرجوا وراءها سراعًا، كأنما أُنْشِطوا من عِقَال . إن كلمة " مفاجئة " أنستهم النصَب ! ووقفوا خلفها على باب الحجرة، كالتلاميذ خلف معلمهم، أخرجت مفتاحًا، قالت وهي تفتح باب الحجرة: أنا مسؤولة عن نظافة غرفة النشاط . دخلوها، وكأنما دخلوا حديقة مترعة، أو روضة مونقة، أو دخلوا في زهرة كبيرة عبقةٍ . دخلوها، وسرحوا فيها راتعين في جمالها وفنونها. إنها حُجرة أقرب إلى لوحة، أو لوحة أقرب إلى حُجرة، أو لوحة في ظاهرها حُجرة، أو حُجرة في ظاهرها لوحة، الفنون تحيط بك من كل مكان، لوحات زيتية رائعة، تصاوير تشكيلية ظريفة، زهور وورود، تحف وتماثيل، دُمًى وعرائس، آلات وأدوت ... ونسي الصحافيون صحافتهم، وألقوا تقاريرهم، وأخذوا يرتشفون من رحيق فن جميلٍ؛ صنعته أنامل الطفل الغزي. يدورون فى الحجرة، وكأنما يطوفون حولها، يتأملون يُحملقون.. ينتشقون من رياها الفني ما هو أطيب من المسك الأذْفَر. قالت سمية ولا زالت قابضة على حقيبتها المتحرقة : هذه هي المفاجئة ! هذه حجرة النشاط، حجرة الفنون، لم يمسسها سوء رغم القصف الحربي للمدرسة، لتعلموا، ولتفهموا، ولتُؤمنوا .. أن العدوان لن يقتل إبداعنا ! *** تمت ** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمشرف العام على موقع نبي الرحمة [email protected]