في سنة 1431ه وقفت فتاة في سن الشباب ، كان عمرها تسعة عشر عاماً واسمها (جان دارك) أمام محكمة من محاكم التفتيش، التي يرأسها (كوشون) القاضي الفرنسي الذي استطاعت انجلترا أن تشتريه وترشوه بالمال ليحكم على (جان دارك) بالإعدام حرقاً بالنار حتى الموت. ما قصة هذه الفتاة الشابة التي حرقها قضاء السوء لقد قادت جيوش فرنسا ضد الإنجليز في حملات متتابعة، واستطاعت بما تملك من سمات القيادة، أن تبث في جنودها الثقة في قضيتهم والإيمان بوطنهم ، حتى حققت النصر على الإنجليز الذين هاجموا فرنسا واحتلوها.. (جان دارك) هي أبرز وجوه مقاومة الاحتلال الإنجليزي أثناء حرب المائة عام، بين بريطانيا وفرنسا (1337-1453)، لقد نجحت في رفع حصار قوات الاحتلال الإنجليزية عن مدينة "أورليانز" الفرنسية عام 1429؛و استطاعت لقاء ملك فرنسا "شارل السابع" بمدينة "شينون"، وأقنعته بخطتها في تخليص( أورليانز) من قبضة الإنجليز..تقدمت جان حينما كانت تبلغ وقتها 13 عاماً على رأس جيش صغير وتمكنت من الانتصار في معركة "باتاي" وطرد الإنجليز من أورليانز. ولكن الإنجليز لم تستفزهم الهزيمة، بقدر ما استفزهم أن تهزمهم فتاة، لبست زي الرجال .. ظلت جان تقاوم المستعمر لكنها أخفقت في كوبييني قبل أن تصل إلى باريس، وسقطت في 23 مايو 1430 في أيدي "البورجينيين" (نسبة إلى جنود دوق بورجوني المعارض لمقاطعة آرمانياك)، وتم بيعها إلى الإنجليز بعد أن ألصقوا بها تهمة السحر والشعوذة، وقدمت جان إلى محكمة كنسية ترأسها الأسقف "بيير كوشون"،وقام الإنجليز بشراء رجال الدين الفاسدين المنحطين، الذين كان طموحهم في المال وحده ولو على حساب النزاهة والإنصاف..كانوا مصممين على الإنتقام من جان دارك ووجهت لها اتهامت زائفة منها الإلحاد والإدعاء بأنها تسمع أصوتاً للقديسين تتحدث إليها، كما كانت تهمتها الأخيرة أنها تلبس ملابس الرجال، وصدر الحكم بالإعدام، واعتُبرت بموجب قرار المحكمة، ملحدة ومرتدة وهو ما ترتب عليه حرقها حية في 30 مايو 1431 م يقول الأستاذ رجاء النقاش وهو يعرض لحادثة جان دارك في كتابه (تحت المصباح): (كان القضاة مرتشين مغرضين ذوي نية سيئة وكانوا مصرين على إعدامها وإحراقها لأنهم أصحاب نفوس صغيرة ومصالح مالية وشخصية أصغر.) إن كل شيء في الدنيا قد تقبله النفس وتستطيع أن تجاريه، أو تعطيه بعض العذر، وتتحمل ما فيه من تجاوز. كل فساد في الدنيا تستطيع الصبر عليه وتقوم معه رغم ما يصيبك من ضرر . تستطيع الأمم أن تعيش وتواصل الحياة في كدح وكبد ، والفاسدون الأفاقون في جنباتها ومصيرها ينهبون ويعبثون ويطيشون. كل شيء يمكن تحمله .. كل بلاء يمكن الصبر عليه ..كل تجاوز يمكن التغاضي عنه.! لكن فساد القضاء وانحراف القضاة دونه الحياة ..هو البلاء الذي لا تطيقه الأمم وإن قبلته.. فقد حكمت على نفسها بالهلاك والدمار. إننا في العصر الحديث لا نعرف أمة أنهكها الفساد واستشرى في جسدها كما أنهك مصر ..فقد ضرب فيها بجذوره، ونفذ في جسدها أنيابه حتى أصابها العدم..افتقرت ..عدمت ..ذلت ....ما عادت مصر في بهائها وعزها وفخرها وزعامتها. أينما سرت تراه في كل مكان ، في الشارع في العمل، في المصالح الحكومية ، في الشرطة في الجيش ، يريك نفسه في كل مكان ولا يستحي ..ويخيل إليك أن الحياة في مصر لا تستطيع السير بدون الفساد ..رشوة ومحسوبية ووساطة ودس ووقيعة وغدر وافتراء وإفك وإقصاء للكفاءات، وإعلاء للمجاملات. ولا أعرف كيف يستقيم ضمير هؤلاء الذين يحاولون أن يوهموا الدنيا أن القضاء المصري منزه عن الخطأ، وأن قضاته قديسون مطهرون معصومون.! إن مبارك لم يدع باباً إلا ورشه ببذور الفساد، التي كانت تنبت في أرضه بصورة جنونية سريعة حتى تشب عن الطوق ولا يستطيع أحد أن يتداركها ..وكان باب القضاء من أكثر ما طرقه مبارك ليبذر فيه منابت الفساد من رجاله الأفاقين للخونة، الذين انهارت على أيديهم موازين العدالة وتشوهت منصة القضاء وصاروا يبرؤن المجرمين القتالين السفاحين، والسراق واللصوص والخونة العملاء ..ومصاصي ثروات الشعب وآكلي حقوقه. وكلما نددنا بهذه الطغمة الفاسدة الضالة سمعنا من يخرج علينا يعيرنا بماضينا ويقول بمليء شدقيه: أليس هذا هو القضاء الذي كان يبرئكم من التهم التي كانت تلقى عليكم..! أهو الآن فاسد وغير عادل؟!! إنكم جائرون ظالمون. أليس هو الذي كان يمنحكم الحرية ويصرف عنكم ظلم الأمن وجور أفراده وينصفكم؟! إنكم غير عادلون. وهذا الهراء الذي يذكروننا به ينبع من تخريف عقول لا تفهم شيئاً ، ولا تدري ما كان يحدث ويدور، وما كان يريده الأمن من سياسته التي كان يتعامل بها مع الإسلاميين ..كان الواحد منا تُحكم له بالبراءة بعد أن يأخذ في السجن عام أو عامين، فياله من حكم منصف بالعدالة.. كان القضاء حقاً يمنحنا حقوقنا في التعيين والترقية بعد سنوات وسنوات، يكون الفرد منا قد أيس من نفسه ومستقبله ، وأخذ يبحث له عن طريق آخر..وليعلم هؤلاء وأمثالهم أن الأمن في دولة مبارك، ما كان يمنعه شيء لينفذ ما يريد..! ما كان لقضاء الدنيا كلها أن يمنعه من إيذاء من يريد إيذاءه، أو إخفاء من يريد إخفاءه ..لأنه لم يكن يتبع غير سياسة البهدلة والتزهيق والإحباط والمضايقة حتى ننزوي عن غايتنا ونؤثر السلامة .. كانت هذه سياسته وطريقته السافلة الساقطة في مضايقة الدعاة وحصارهم حتى يكره الواحد منا نفسه..ولو أنه أراد أن ينفذ ما يريده من إجراءات تعسفيه لأشار لأشار لزبانية القضاء لينفذوا أوامره لكن السفهاء لم يدركوا نفسيه أصحاب الغايات وحملة الرسالات والأهداف النبيلة التي نذروا أنفسهم من أجلها..وإني لأتعجب ممن يدافعون اليوم عن القضاء بأنه نزيه ..فأقول : كيف لدولة ضرب الفساد كل مفاصلها ومؤسساتها وكل أركانها ثم ينجو القضاء ؟! الذي هو من أخطر وأهم ما يستهدفه الحكام الطغاة كما استهدفه ناصر من قبل فيما عرف بمذبحة القضاء.. هل للقضاء إذاً عصمة من السماء أو جيوش تحميه من استهداف الفاسدين والحكام الباطشين ، أم أنه سلطة في دولة لا يخضع لنظامها الذي أدمن الفساد.. إن النزهاء من القضاة أنفسهم لن يستطيعوا أن ينجوا من إرادة الجبارين ورغباتهم في إفساد الأحكام وتزويرها وإلا تعرضوا لما لا يحمد عقباه..ندرك أن هناك شرفاء ولكن الصورة الغالبة أعتمت صفحة القضاء حتى أنك تستطيع أن تعد شرفاءهم على أصابع اليد.. لا زلت أذكر ولا زال الشعب كله يتذكرمعي حينما خرجت علينا جريدة الأهرام عام 2012 م بهذا النعي من المستشار الآثم (عبد المجيد محمود) وهو يتقدم بالعزاء مع أعضاء النيابة أبناء المستشار الفقيد (فايز السيد جاد اللمساوي) الخمسة في وفاة والدهم..النعي فضح لنا نموذجاً من نماذج الوساطة والمحسوبية التي عج بها القضاء المصري ، فالفقيد المحترم.. عين أبناءه الخمسة في القضاء.. ويبدو أن عائلة اللمساوي موهوبة بالفطرة ، وأنها أُشربت القضاء كابراً عن كابر ..وأن دماء العبقرية القضائية تجري في عروق أنسالهم..كتب البعض أن الصورة لا تحتاج إلى تعليق.. وحقاً هي لا تحتاج إلى تعليق ،وهذا مما علم، وما خفي كان أعظم..!! وأرى أن صورة اللمساوي ستظل عبر الأزمان شاهد عيان على فساد هذه الحقبة من تاريخ مصر، وقدر لهذه اللوحة أن تُنسب للقضاء لا لمؤسسة غيره. المعركة اليوم ليست مع الشرطة أو الجيش أو الفلول ورموز الثورة المضادة ..إنما المعركة الحقيقية مع قضاء مبارك وعناصره الفاسدة التي تنفذ أحكامه وتفرض إرادته..المعركة مع هذا القضاء الذي منح البراءة لكل شيء..حتى صار سخرية الساخرين..بل قال: بعضهم لو أن مصر رفعت قضية على وانجلترا وإسرائيل لتدينهم على الإحتلال والإستعمار لخرج القضاء المصري يبرئهما مما فعلا.! هكذا قال الساخرون المستهزئون ..ولكني أؤكد لهم أن هذا لو حدث فعلاً لحكم القضاء المصري بما سخروا منه..لأن رموزه النتنة ألفت خيانة الوطن وخيانة العدالة وخيانة والقانون ، وصارت لا تستحي من العار أن يلحق بها ..ومالهم يخشون العار وقد وجدوا من إعلام الثورة المضادة، والأبواق الضالة الآثمة ، من يصفق لهم كلما خانوا وغدروا بل يجعلون منهم أبطالاً ووطنيين. وهكذا بعد مئات السنين ..يوجد بمصر قضاة أفاقون أبشع من هؤلاء الذين حكموا ظلماً وعدوانا على (جان دارك) أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]