ربما يكون من المفارقات العجيبة أن يأتي الإعلان الرسمي الأمريكي باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا، بعد مرور عشرين عاما على حصول الغارة الأمريكية على طرابلس وبنغازي الذي خلف المئات من الضحايا في صفوف الليبيين، بينهم ابنة القذافي بالتبني! وقد رحبت ليبيا بإعلان الولاياتالمتحدة إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها وفتح سفارة أمريكية قريبا في طرابلس، وهو ما اعتبره وزير الخارجية عبد الرحمن شلغم "صفحة جديدة" في العلاقات الثنائية"، والهدف الذي كانت طرابلس تسعى إليه منذ فرض العقوبات عليها. وحاول نظام العقيد معمر القذافي التقرب من واشنطن والقيام بمبادرة سياسية وذلك منذ عام 1986، عندما أجبرت العقوبات التي فرضتها الولاياتالمتحدة على ليبيا شركات النفط الأمريكية على مغادرة البلاد. وبالرغم من أن الزعيم الليبي لم يهتم كثيرا عندما قطعت الولاياتالمتحدة علاقتها الدبلوماسية مع بلاده عام 1980، لكن رحيل الشركات الأمريكية البترولية والغازية يعني خسارة التكنولوجية الأمريكية في قطاع النفط والغاز، وهو ما كانت تعتمد عليه ليبيا، وتخشى حدوثه. الإعلان الأمريكي، ورغم التبريرات المقدمة من طرف نائب وزير الخارجية الأمريكي "دافيد ولش" فيما يتعلق بتوقيته وظروفه السياسية، جاء بعد أشهر طويلة من المحادثات الشاقة بين أمريكا وليبيا، فإنه وبدون شك مثل وقع المفاجأة إن لم يكن "الصدمة" بالنسبة للشارعين الليبي والأمريكي، فمن غير السهل بالنسبة للشارع الأمريكي "المصدوم" بالخسائر اليومية لجنوده في العراق وأفغانستان، وتعثر العملية السياسية في البلدين، وفضائح التجسس على مكالماتهم الهاتفية، أن يتقبل بعد فترة زمنية من العداء والكراهية لليبيا وقائد ثورتها، الزعيم الليبي معمر القذافي كصديق لأمريكا وللغرب عموما، ويتلقى الثناء والتحية من واشنطن والعواصم الغربية على خطواته الأخيرة التي مست إستراتيجيته في التسلح والإصلاح السياسي والاقتصادي، وتحسين ظروف حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب. وكان رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، صرح أن الزعيم الليبي معمر القذافي: "مستعد للدخول في شراكة مع بريطانيا والغرب في الحرب ضد الإرهاب".. وقال إن الزعيم الليبي "أقر بوجود أرضية مشتركة مع الغرب في مواجهة تطرف تنظيم القاعدة"! وأشاد بلير بهذا القرار من قبل العقيد القذافي، وقال إنه يعد "قرارا شجاعا"، مشيرا إلى إمكانية حل المنازعات من خلال المفاوضات وبالوسائل السلمية، وأكد أن "سلوك ليبيا الآن يؤهلها للعودة إلى المجتمع الدولي". في حين بقي الشارع الليبي حائرا من وقع التقلبات السياسية الحاصلة في بلاده والعالم، وهو الذي كان ضحية أهواء زعيم ثورته، الذي حمل الشعب لمجابهة سنوات الحصار والضيق والخناق لوحده. لكن الواضح، والذي لا يقبل مجالا للشك، إن ليبيا التي كان ينظر إليها من طرف الولاياتالمتحدةالأمريكية وبالتالي أوروبا الغربية، على أنها دولة مارقة في العالم العربي، وأن القيادة الليبية متورطة في عمليات إرهابية خارجية، باتت محل إطراء إدارة البيت الأبيض وكبار قادة أوروبا( بلير وبرلسكوني أزنار وشرودر...). ويمكن القول، كما ذهب إليه بعض المحللين، أن ملامح التغيير بدأت في ليبيا المصنفة أمريكيا من بين الدول المارقة، بعد الاجتياح الأمريكي للعراق مباشرة، حيث خففت ليبيا من التصريحات النارية التي كان يطلقها الزعيم الليبي معمر القذافي، وأرخت من قبضتها الحديدية فيما يتعلق بتسيير دفة الحكم، ربما مجبرة وليس باختيارها أو قناعة منها بإيجابية هذه المساعي، كي تثبت للولايات المتحدة أنها ستتحول تجاه الديمقراطية طواعية وبعيدا عن خيار القوة، ووأد كل الشعارات الثورية والقومية التي أفلست وأفلست معها ليبيا. يذكر أن ليبيا ظلت لمدة طويلة منبوذة دوليا بسبب قيام أحد عناصر مخابراتها تفجير طائرة شركة "بان أميركان" فوق بلدة لوكيربي في اسكتلندا، واغتيال ضابطة الشرطة البريطانية إيفون فليتشر وإمداد الجيش الجمهوري الأيرلندي بالأسلحة والمتفجرات. غير أن الزعيم الليبي معمر القذافي اضطر في الأخير إلى دفع تعويضات ضخمة تقدر بنحو 2.7 مليار دولار لأسر ضحايا طائرة "بان أميركان"، الذين يبلغ عددهم 270، وذلك بواقع عشرة ملايين دولار لكل أسرة. ويرى المراقبون السياسيون، أن الدرس العراقي وتداعيات احتلال حاضرة الخلافة العباسية، وإلقاء القبض على الرئيس صدام حسين، كان من الدوافع المحفزة لليبيا لبدء تحولها من دولة مغضوب عليها إلى دولة مرضية عنها. وعندما اختارت القيادة الليبية إيجاد تسوية سلمية لأزمة لوكربي التي دامت لفترة طويلة، تم استغلالها للضغط عليها واستنزافها، لاحظ العديد من المراقبين كيف أن الحديث عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية في ليبيا، صار من الأمور الاعتيادية في أحاديث الزعيم الليبي والقيادة السياسية الليبية، كما أن اللجان الشعبية انضمت هي الأخرى إلى صف المطبلين والمتكلمين عن مزايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومع الإعلان الأمريكي باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا، تبدو واشنطن وكأنها أرست قواعد لعبة جديدة لخياراتها في الشرق الأوسط، إستراتيجية قائمة على أساس "خطة طريق" تدعم عودة الدول المارقة المستعصية إلى "جنة" أمريكا الديمقراطية، إذ يظهر وكأنها تضع نموذجين أمام قيادات المنطقة للاختيار بينهما، أولهما: نموذج صدام حسين(الزعيم المشاغب) الذي يقاوم أمريكا ويرفض سياساتها ويحرض عليها، ويطور أسلحة محرمة دولية، مع إدراك ما قد يلحق به في نهاية المطاف من أسر وذل وهوان أو اغتيال، والنموذج الليبي (الزعيم التائب) الذي يتخلص طوعا وبإرادته عن برامج التسلح المحرمة والرغبة في تفكيكها، مع إدراك ما قد يحصل عليه في نهاية المطاف من مكافآت ومكاسب مالية وسياسية، ومن قبول المجتمع الدولي، وتبييض سجله –من جديد– فيما يخص تجاوزاته السابقة في مجال حقوق الإنسان. وكانت طرابلس قد أعلنت بشكل مفاجئ في ديسمبر 2003، أنها ستتخلى عن برامج أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها، في محاولة لإنهاء عزلتها الدولية. وأعلنت الولاياتالمتحدة أنها قررت تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة في كل من عام 1986 وعام 1996 على ليبيا بعد 18 عاما من سريانها، وذلك لمكافأة طرابلس على قرارها وقف برامج تطوير أسلحة الدمار الشامل، واعتقاد العقيد القذافي بأن إدخال الإصلاحات المطلوبة أمريكيا وغربيا ضرورية، كما أن مستشاريه المقربين أخبروه أن النجاح الاقتصادي وحصول ليبيا على مكانة دبلوماسية مرموقة، يعتمد على إدخال تلك الإصلاحات وفي جميع المجالات. وقد أعلنت ليبيا شروعها في إصلاحات سياسية واقتصادية بعد أن واجه العقيد حقيقة أن الركود في الاقتصاد الليبي لم يكن نتيجة للعقوبات فقط، ولكنه متعلق أيضا بعدم كفاءة أداء المؤسسات الاقتصادية العامة، واستشراء الفوضى والمحسوبية والرشاوى، والضغوط المحلية على اللجان الشعبية التي فقدت ثقة الشعب بعد تفشي الجهوية والقبلية والعشائرية في أجزائها، ناهيك عن التمرد الإسلامي الذي زلزل أركان الحكم "القذافي" العشائري وكاد يطيح به في نهاية التسعينيات، الأمر الذي كان يعني أن التغيير السياسي أمر حيوي التأخر فيه لن يكون لصالح النظام. كما أن قرار تخفيف العقوبات المفروضة، يعني إمكانية تصدير النفط الليبي إلى الولاياتالمتحدة، والسماح للشركات الأمريكية باستئناف أنشطتها التجارية في ليبيا. وبالرغم من أن البيت الأبيض سعى إلى تصوير الموافقة الليبية على التنازل عن برنامجها النووي الذي لم يكتمل منه العشر، وترحيبها بتفتيش برنامجها الخاص بأسلحة الدمار الشامل وتطوير الصواريخ الهجومية، بمثابة نجاح للسياسة الأمريكية بعد سنوات من الضغوطات السياسية والاقتصادية والعسكرية (عام 1992) والحصار الأممي، فإن الزعيم الليبي معمر القذافي سيشعر أن النجاح كان حليف نظامه وسياسته الجديدة التي انتهجها. * من المستفيد .. ومن الخاسر؟؟ من المرجح أن تكون الشركات البترولية الأمريكية الضخمة أكبر الرابحين من عودة العلاقات الدبلوماسية بين واشنطنوطرابلس، فقطاع النفط والغاز يتمتع باحتياطي وافر لا يكلف استغلاله إنفاقا ضخما، وهو يسيل لعاب المستثمرين الأمريكيين والبريطانيين، لأن ليبيا تتوفر على قطاع صناعي كبير للنفط والغاز، لكنه غير متطور، يتطلب الحصول على مليارات الدولارات في شكل استثمارات مباشرة لتحديث بنيتها التحتية التي تأثرت بالحصار المضروب عليها. وينظر إلى الاقتصاد الليبي الذي رزح تحت عبء العقوبات لسنوات طويلة، على أنه بات جاهزا للتجديد والتحديث واستقبال الاستثمارات الأجنبية. طرابلس ترغب في جني ثمار اقتصادية أخرى بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بينها وبين واشنطن من خلال فتح السوق الليبية لرجال الأعمال الأمريكيين، للاستثمار خارج قطاعي النفط والغاز، بما تملكه من شريط ساحلي يفوق 300 كلم وقدرات زراعية مهمة وبنية تحتية صناعية كبيرة، وموارد مائية معتبرة، قد تنتقل ليبيا من جرائه من دولة في طريق النمو إلى دولة نامية بقدرات هائلة. ورغم أن العقيد القذافي يتوجس من إدخال الإصلاحات الضرورية، لكنَ مستشاريه أخبروه أن النجاح الاقتصادي وحصول ليبيا على مكانة دبلوماسية مرموقة يعتمد على إدخال تلك الإصلاحات المصدر : العصر