يبدو أن الحقيقة التى كنا نسوقها عن السويد لبيان أن الحياة المادية لا تكفى وحدها لسعادة الإنسان، كونه البلد الذى يوفر أفضل مستوى معيشة لمواطنيه ويعانى فى ذات الوقت من ارتفاع نسب الانتحار فيه، أصبح لها ما يؤيدها فى جميع دول الاتحاد الأوروبى، حيث أظهرت دراسة إحصائية حديثة أن 38% من الأوروبيين، أى ما يعادل 165 مليون شخص، يعانون من أمراض نفسية كالقلق والاكتئاب والأرق وإدمان الكحول والمخدرات والهلوسة، وصولاً إلى الذهان والجنون التام أو الجزئي، كما أظهرت الدراسة أن الإدمان هو الخيار الأول للهروب من واقع الحياة قبل الإقدام على الخطوة النهائية بالانتحار، وبالرغم أن أوروبا تعانى من ظاهرة إدمان الكحول، والتى تكلف اقتصاديات دولها مليارات لمواجهة آثارها، إلا أن هذه الظاهرة فى زيادة مستمرة، وفى واحدة من الخطوات التحذيرية من أثر الكحول على البشر قام أستاذ صينى بتتبع أثر جرعة واحدة من الكحول على الدماغ عن طريق الأشعة، ووجد أنها تحدث تلفاً فى خلايا الدماغ، كما لو أنه تلقى ضربة من يد الملاكم محمد على كلاى فى أوج عنفوانه! وقد يشكك البعض فى هذه الدراسات والإحصائيات ويقلل من أهميتها، حيث إنها فى العموم لا تؤثر على حركة هذه المجتمعات ونهضتها، وهذا ليس صحيحًا بالكلية، فتطور المجتمعات تقنيًا واقتصاديًا لا يعنى بالضرورة أن بنيتها الاجتماعية والنفسية والأخلاقية مستقرة وسليمة، وما هذه الأرقام إلا تأكيد لهذه الحقائق، فهذه البلاد كما نعرف ونسمع ونرى توفر كل شيء لمواطنيها من أول لبن العصفور، مرورا بالحرية التى لا تعرف حدودا ولا تخضع لمنطق والرفاه الاقتصادى و.. و.. و.. ببساطة كل ما يطمح إليه البشر من أحلام الاستقرار والكفاية والزيادة، كل ما يجعلنا نلهث لنكون مثلهم، وكل ما تحرمنا حكوماتنا منه وتسمن به على حسابنا. فأين تكمن الحلقة المفقودة التى تجلب السعادة وتقى من الأمراض والتى لم تستطع أوروبا بكل تقدمها أن تكتشفها؟! وتبدو النساء طرفاً أضعف وأكثر عرضة لهذه الأمراض، فقد نشرت صحيفة الجارديان أن ثلث النساء البريطانيات فوق سن 18 يتناولن مضادات للاكتئاب، وأنهن يعانين من قلق شبه دائم بشأن حياتهن العاطفية وصداقاتهن وعملهن والأسرة، إن وجدت، وأغلبهن يلهثن نحو اكتساب مزيد من الجمال وينفقن أكثر من نصف رواتبهن على المساحيق والملابس، وقد وصل بهن اليأس فى دوامة الجمال والركض وراء الشباب إلى استخدام مساحيق وكريمات وأقنعة مركبة من سم الأفاعى وبراز العصافير ومشيمة الجنين وحقن الوجه بكريات الدم والتى تعرف "بشد البشرة على طريقة مصاصى الدماء"!! نفتقد فى عموم بلادنا العربية لكل مقومات الحياة الكريمة، وتزيد لدينا نسب الأمراض النفسية لسوء الأحوال الحياتية وكثرة الضغوط ويزداد عدد الذين يعتلون أسطح الأماكن المرتفعة للانتحار، إلا أننا نملك علاجات لا يملكها الغرب الذى نحّى الدين عن واقع الحياة، فأصبحت الكنائس كالمتاحف يزورها الشعب للوقوف على الأطلال! العلاج الذى نملكه يشخص المرض فى القلب أولاً، ففيه وحشة لا تملؤها ملاهى الحياة ومباهجها جميعًا، لا يملؤها سوى الأنس بالله والصلة به، علاج ينبه أن الإعراض عن ذكر الله يجعل الحياة ضنكًا والكلمة بأحرفها ولفظها ومعناها تجمع كل أشكال الغم مفخمة مضخمة متواترة، علاج يعترف أن الحياة لا تصفو لبشر فيرشدنا إلى الاستعاذة بالله من المعكرات جميعًا فى دعاء من الأوراد يسن تريده يوميًا "اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، علاج إيجابى وقائى يقول عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب". فالهم والغم ليسا من ضيق ذات اليد فحسب، ولكنهما بداية من ضيق القلب، هذا الذى لو اتسع وانبسط لأصبحت الحصيرة والكسيرة تفوق الطنافس والمآدب، ولو ضاق ورق الدين لأصبحت الحياة أضيق من خرم الإبرة! لدينا الكثير من وسائل غنى النفس والقلب، وليس معنى هذا أن نصبر على سرقة حقوقنا الدنيوية على أيدى الفاسدين، ولكن إدراك منزلة الغنى القلبى وصلاح البال الذى لا يتحقق إلا بمعرفة الله يجعل المرء يسير فى ركاب الحياة مطمئن السريرة قرير العين، وقروشه، كثرت أم قلت، بين يديه لا فى قلبه لا يتطلع إلى ما يستطيعه ولا يحزن على ما فاته من غير نصيبه، وصدق من قال: "إذا عندك ما أعطى الله نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا ولا تراه شيئًا وإنما تريد ما أعطى الله النمرود وفرعون وهامان، فمتى تفلح؟!" ليست بلاد الغرب كلها خيرًا، كما ليست بلادنا كلها شرًا، وعلى رأى من قال: بلا أوروبا بلا أمريكا.. ما فى أحسن من بلدي.. ونعود ونقول.. فى أشياء وأشياء. فى أوروبا يصرفون المال والوقت لزيارة الطبيب والمرشد النفسى ويتنقلون بين الديانات الإلهية والخرافات بحثًا عن صلاح البال، وأنت أيها المسلم ماذا يحول بينك وبين إدراك صلاح البال ما دمت عرفت الطريق؟! ما بيننا وبين صلاح البال ركعة ينزاح فيها الهم والغم ويرتفع بها القدر وتقضى بها الحاجات.