الحكماء القدامى قالوا : صديقك من صدقك لا من صدقك ، بتخفيف الفتحة في الأولى وتشديدها في الثانية ، بمعنى أن الناصح الأمين لك من يقول لك الحقيقة الصادقة ولو كانت صادمة ومؤلمة وليس من يصدق على أي كلام تقوله لإرضائك ، ومن هذا الباب أقول أن واقعة اغتيال الجندي المصري أحمد شعبان على حدود رفح قبل أيام هي جريمة صريحة ما كان لحماس أو غيرها من الفصائل الفلسطينية أن تتورط فيها ، نحن هنا لا نناقش الجدل المصاحب للقافلة التي قادها جورج جالاوي والعنت الذي قوبلت به من قبل السلطات المصرية ، لأن الصورة ربما تكون غير مكتملة عن حقيقة ما حدث ، وإن كان الواحد منا يستغرب من هذا الصخب والتوترات التي تتورط فيها الحكومة المصرية مع كل قافلة معونات تذهب إلى غزة ، على كل حال ، لا نخلط الأمور ، حتى لا تضيع الحقائق ، فحركة حماس التي استطاعت أن تضبط حدود غزةالشرقية والجنوبية مع الصهاينة بحيث لا يطلق صاروخ كل عدة أشهر إلا بإذنها وموافقتها ، لا أتصور أنها كانت عاجزة عن ضبط الشريط الصغير مع رفح المصرية لمنع زخات الرصاص التي انطلقت من جانب القطاع تجاه الجنود المصريين الموجودين على الجانب الآخر ، ولن تقنع حماس أحدا بأن الرصاص الذي انطلق تجاه الجندي المصري مجهول الهوية ولا تعلم عنه شيئا ، كما أنه سيكون كلاما ساذجا ومستفزا تكرار تصريحات بعض قيادات حماس بأن الرصاص الذي قتل الجندي المصري هو رصاص انطلق من الجانب المصري فأصاب الجندي بالخطأ ، هكذا فبركوا الرواية بعد ثلاثة أيام ، على الرغم من أن سامي أبو زهري قائل هذا الكلام الذي يعيش أجواء ثأر لوفاة شقيقه في السجون المصرية قال بأن حماس فتحت تحقيقا في الحادث لمعرفة الملابسات وأن نتائج التقرير سوف تعلن لأجهزة الإعلام ، فإذا كنت قد أعلنت النتيجة مسبقا فما قيمة وجدوى التحقيقات ، الواقعة الخطيرة تجعل حماس تخسر الكثير من التعاطف الشعبي المصري معها ،وهذا ما لمسته بنفسي ، كما تفقدها تفهم البعض في المؤسسة السياسية الرسمية لمشكلاتها ، وحكاية استرخاص الدم العربي والفلسطيني واستسهال إراقته في أكثر من موقف من قبل قوات حماس خلال أشهر قليلة يعني أن هناك جناحا في حماس يتصف بالدموية ولا يعبأ بأي قيم أو أخلاقيات تحكم المسار السياسي ، سواء في الداخل الفلسطيني أو مع المحيط العربي ، وهذا الجناح الدموي القمعي المتطرف سوف ينتهي بحماس إلى سلسلة من المواجهات العابثة والرعناء التي تفقد الحركة جاذبيتها وتعاطف الشعوب معها ثم تخرجها في النهاية من مسار المقاومة إلى مسارات أخرى ليست بعيدة عن ما ترمي به خصومها ، والأقلام والتنظيمات التي تحاول أن تبرئ الحركة من المسؤولية عن الجريمة الأخيرة أو تخلط الأوراق بين واقعة اغتيال جندي مصري وبين مشاحنات حدثت مع قافلة غالاوي ، هؤلاء يضرون بحماس ويغرونها بالمزيد من سفك الدماء والإيغال في وحل العداءات والدماء الاعتباطية ، كما أن التفكير من زاوية إحراج الحكومة المصرية وتصدير المشكلة إليها تفكير شديد السطحية ، وربما يكون هدية من حماس إلى الحكومة الإسرائيلية نفسها ،المشكلة أن الأوضاع تزداد تعقيدا وأكثر من قوة وأكثر من دولة وأكثر من تنظيم تتقاطع حساباته الخاصة مع ملف محنة غزة وشعبها ، والإعلام العربي من صحف وفضائيات يخوض ويغطي المواجهات هناك من منطلق نفس الحسابات المتباينة ، والتي هي في معظمها أبعد ما تكون عن المقاومة ونبل مقصدها ، وهو ما جعل خطوط الحقيقة والتزوير في المشهد تتداخل بدرجة مثيرة ، وهي على كل حال مجرد نموذج مصغر من الاضطراب الرسمي العربي الممتد من المحيط إلى الخليج . [email protected]