لقد كان انتخاب الرئيس مرسي رئيسًا لمصر حدثًا مهمًا في تاريخ العرب الحديث، إذ لم يُعلم في تاريخنا الحديث أن حاكمًا عربيًا جاء عن طريق الاقتراع الشعبي الصحيح غيره، وكان من الممكن أن يكون ذلك مقدمة لتغيير مسار المنطقة بأكملها، وأن تتحول الدول العربية التي هي نواة الإسلام والصورة المصغرة للعالم الإسلامي إلى قوة ذات ثقل كبيرة تؤثر في مسارت العالم وتركيبه وتغير موازين القوى التي ظلت ردحًا من الزمن في يد غيرنا.. وقد عول على ذلك كل المصلحين الذين ينشدون الخلاص لأمتهم والعزة لدينهم والسيادة لأوطانهم والحياة السعيدة لشعوبهم، ليس في مصر وحدها ولكن في كل ربوع العالم الإسلامي.. ولكن صار ذلك الأمل بعيد المنال وإن كانت الفرصة مازالت مهيئة لتحقيقه لو تعقل المسئولون وأصحاب الشأن وغدت نظرتهم للأمور أوسع وصدورهم أفسح ونظرتهم للغير أرحب ونياتهم لله أخلص ومقدرتهم على التخلص من الذاتية أقوى .. وأقول إن تحقيق ذلكم الأمل صار بعيد المنال، لأن الرئيس محمد مرسي فاته الكثير والكثير بعد انتخابه.. فاته أن حوالي 48% من الذين ذهبوا للاقتراع لم يصوتوا له، وهؤلاء لم يكونوا كلهم ضده ولا ضد المشروع الذي تبناه في دعوته الانتخابية ولا مأجورين ولا من المعادين للإسلاميين، ولا من الداعين للعلمنة، وإنما كان منهم أصحاب النوايا الحسنة الذين نشدوا للاستقرار للبلاد والخروج من الانفلات الأمني الذي عانته البلاد منذ قيام وتعطل مصالحهم والكثير منهم يطلب رزقه يومًا بيوم بعد أن ركز المنافس للدكتور محمد مرسي على هذا الأمر وضرب وأنصاره على هذا الوتر كثيرًا .. وكان على الرئيس بمجرد فوزه بمنصب الرئاسة أن يسعى لتحقيق مآربهم، ولكن كثيرًا من ذلك لم يحدث، وبدا من الرياسة تباطؤ وتساهل وتغافل مع المجرمين والخارجين على القانون حتى شجع ذلك المرجفين والخائفين منهم على أن يقلدوا في إجرامهم أصحاب القلوب الميتة المستعصية على الشرطة، ورأينا الجبان يخرج ويقطع الطريق أو يعطل حركة القطار أو يغتصب أراضي الدولة ويبني عليها القهاوي والدكاكين والمنازل ويسرق لها الكهرباء على مرأى ومسمع من الجميع، كما رأينا المواد التموينية (الوقود) تسرق علانية ويعاد بيعها للمواطن من جديد رغم عشرات المليارات التي تهدر في دعهما، وكادت حياة الناس أن تصاب بالشلل جراء ذلك، وخاصة الفلاحين الذين يعانون الأمرين في الحصول على السولار لري زروعهم . فاته أن الجهاز الإداري للدولة بأكمله (فضلا عن السلطة التنفيذية المتمثلة في جهاز الشرطة والسلطة القضائية) كان مرتبطا ارتبطا كليًا بالنظام السابق ومحال أن يتحول عنه فجأة، وإنما لابد من نظام التدرج الذي اقتضته سنن الكون، وأنه لا بد من التعامل معه بوضعه الحالي كما هو كما فعل أردوغان في تركيا، ولكنه للأسف لم يحسن إلى الآن التعامل معه؛ مما أحدث حالة من الانفصام بينه وبين الحكومة، فصار كل وزير في واد وجهازه الإداري في واد آخر مما زاد من حالة الفوضى في البلاد .. فاته أن قيادات الحزب الوطني السابق أو من يسمون برجال النظام البائد كانوا مهيمنين على مفاصل البلد ومسيطرين على اقتصادها وإعلامها، وهؤلاء تحولوا إلى ما يشبه الثيران الهائجة أو الأسود الجريحة بعد قيام الثورة خوفًا على مصالحهم ومنافعهم ومستقبلهم فلم يحسن التصرف معهم بحكمة تقيه شرهم فهيجوا عليه الأمور وأشعلوا له نار الفتن بأموالهم وخبراتهم . فاته أن جل القوى الثورية قد التفت حوله قبل انتخابه وبمجهودهم جميعًا قد فاز بمنصب الرئاسة، وكان من المفترض أن يزيد اجتماعهم عليه بعد تنصيبه وتحقيق هدف الثورة في المجيء برئيس منتخب بإرادة شعبية حرة، وذلك عن طريق احتوائهم وفتح صدره لهم قبل قصره ومكتبه ، ولكن ذلك لم يحدث، وتفرقوا عليه لأسباب قد يعلمها أكثر مني، وحتى بعض التيارات الإسلامية بدأ يحدث في الأيام الأخيرة شرخ بينها وبينه، وهذا يزيد من أعبائه، فمن حسن طالع الحاكم كما كان يقال قديمًا أن يأتلف عليه المختلف، ومن سوء طالعه أن يختلف عليه المتفق.. فاته أن العالم كان يتوجس من دعوة الإخوان المسلمين منذ نشأتها بسبب تبنيها لفكرة الخلافة وأستاذية العالم، ووصول رجل منهم لمنصب الرئاسة في أكبر دولة عربية معناه ازدياد هذا الخوف والتوجس مما يدفع كل المعارضين لهم لبذل أقصى ما في وسعهم لإفساد الأمور عليه ... ولذلك كان يتوجب عليه من أول يوم في رئاسته أن يزيل هذا التوجس من قلوب الجميع بطرق عملية ولا يكتفي بما ردده في خطبه، وخاصة إلى حكام ( ملوك ) الدول العربية الذين يربطون بين قيام الخلافة الإسلامية وزوال ملكهم، والتاريخ علمنا أن الحاكم يفرط في كل شيء إلا في كرسيه، ويفعل كل شيء من أجل المحافظة عليه، والفرصة أمامه الآن وأمام جماعة الإخوان المسلمين لأن تهدئ من روع هؤلاء وأن تؤكد لهم أنهم لا يسعون لأكثر من إقامة دولة عادلة في مصر تقوم على مبادئ الإسلام وشرعه، وأن فكرة الخلافة الإسلامية إن تمت ما هي مشروع تكامل وتبادل للمنافع بين الأقطار الإسلامية مع احتفاظ كل قطر بسلطانه وعادته ونظامه على غرار ما هو معمول به في الاتحاد الأوروبي، بل أن الفكرة نفسها موجودة بالفعل، فما منظمة العالم الإسلامي الحالية إلا تطبيق لها لكن ينقصها تفعيل دورها كما ينبغي .. فاته أنه كان داعية قبل الوصول لمنصب الرئاسة، ونشاط الداعية وجهده ينصب في محاولة الوصول لقلب المخالفين لهم وجذبهم إليه قبل المؤيدين له، مهما كانت عداوتهم له، فالداعي بمنزلة الطبيب والمدعو بمنزلة المريض، لا يرى الثاني من الأول إلا الحرص على شفائه، وهذا لم يتحقق إلى الآن ، مع أن معيار نجاح الداعي يكون في إقناع المخالفين بفكرته وكسب قلوبهم حوله وتأليفهم إليه لا في رضا أتباعه عنه.. وهذه الأمور من الممكن للرئيس محمد مرسي ومن حوله استداركها الآن ليتحقق الأمل الذي قلت من قبل إنه صعب المنال ولكنه ليس محالًا.