حين شرعت في كتابة هذا المقال، سارع الدكتور عمرو حمزاوي أستاذ العلوم السياسية والقيادى بجبهة الإنقاذ المعارضة، بالتنديد بالدعوات التى تنادى بعودة الجيش إلى الحياة السياسية مرة أخرى، مؤكدًا أن مصر تقترب من نقطة خطيرة جدًا وهى نقطة ال"لا حكم وأن مؤسسة الرئاسة لا تمتلك رؤية لإدارة شؤون البلاد"، وأضيف أنا من عندي أن كل من يتصدر المشهد السياسي في مصر الآن لا يملكون أية رؤية سياسية أو اجتماعية واقتصادية لكيفية إدارة شؤون مصر في الوقت الراهن.. وهذا لا يعود فقط إلى ما أسماه حمزاوي "أن مؤسسات الدولة لا تقوم بواجباتها طوال 60عامًا، وإنما يعود لمقولة ظلت راسخة في الوجدان "أن فاقد الشيء لا يعطيه". وقد كنت شرعت في كتابة هذا المقال منذ فترة.. فلم أكن صراحة متحمسًا للانتهاء منه، فقد كانت الأحداث تفرض نفسها على الكاتب، وتضغط على قلمه ومشاعره، وحتى على قدرته على الاستمرار.. ناهيك عن حالة "الزهق" من متابعة المشاهد المتكررة، والأحداث التي ما تنفك تنتهي حتى تبدأ وكأننا نعيش في دائرة.. أو عجلة كبيرة ما تلبث أن تنزل بنا أسفل سافلين ثم تعود فتعلو بنا إلى آفاق عالية ومابين الارتفاع والهبوط.. تتأرجح بنا الحياة، ويتأرجح بنا الفكر وصوابيته.. لعلي أعيد توصيف ما يجري الآن، وما يمكن أن نصف به حال النخبة في مصر، حيث إنهم يعانون من ظاهرة التصحر الفكري، استوى في ذلك تلك النخبة التي تملك قيادة الأمور في البلد، أو تلك تلك التي تقف على الرصيف الآخر، أو حتى تلك التي تقف ما بين بين. وأنا هنا لا أتعرض لجموع الشعب، لكني أشير إلى ما يطلقون على أنفسهم "النخبوية" أو النخبة التي تتعاطى الشأن العام في مصر. لكن ابتداءً علينا أن نذهب لنتعرف على توصيف فني مهني دقيق لكلمة التصحر.. ثم نعرج منها على ما نعنيه بالتصحر الفكري. فالتصحر.. كلمة تعني فيما تعني "تحول الأرض الخضراء إلى صحراء قاحلة.. وهذا المعنى المباشر.. خطر فعلًا يهدد المجتمعات والتجمعات الحضرية في عالمنا العربي، ومصر ليست استثناء. ويعني أيضًا فقدان قدرة الأرض على الإنتاج الزراعي ودعم الحياة الحيوانية والبشرية. من هنا بات التصحر من أهم المخاطر التي تهدد الأمم والدول، والحضارات الإنسانية، فضلًا عن التهديد المباشر لحياة الإنسان، أيًا كان موطنه، وجنسه ودينه. لعلي هنا ألاحظ وجود تشابه كبير بين التصحر بمعناه الزراعي والبيئي والتصحر الفكري الذي أحذر منه وأشير إليه في هذه المقالة. فحين يتراجع الإبداع، وحين يتراجع العلم ودور الثقافة والفكر في أحداث الحراك الفكري والمجتمعي، يحدث هذا التصحر، وحين تحدث هجرة الكفاءات والخبرة إلى الخارج أو قبل ذلك يتم تلقيها في الخارج فتلقائيًا يتم ترجمتها في الخارج، وحين تهرب العقول المفكرة والمبدعة إلى الخارج، وحين لا تعود العقول المهاجرة من الخارج إلى وطنها تمارس حقها في إحداث نهضته، وحين لا يفرز المجتمع مفكرين ومبدعين ومثقفين وأدباء وسياسين ودعاة متمكنين يمكن وصف ما يجري بأنه تصحر فكري. وكنت قد أشرت إلى ذلك في مقال تحدث عن تجريف العقل المصري. وهاأنذا أعود لأكرر أن النخبوية المصرية تعاني من أزمة حادة.. هي التصحر الفكري والثقافي والإبداعي، ذلك أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول.. يعني أن من يدير حركة المجتمع في مصر الآن هم أردأ الأنواع.. أو أردأ العملات.. ومن ثم هم يعانون من هذا التصحر الفكري. وليس بغريب أن يكون معظم من يتولون قيادة العمل السياسي الآن كانوا طلابًا سابقين تربوا على العزل السياسي، وعلى الإقصاء، وعلى التهميش, أما الآن فإن (الانتماء الفكري) يشكو من كساد سوقه وبوار بضاعته، ذلك لأن صناعة الفكر تتطلب القراءة والاطلاع والحوار والمعارضة وهي ملكات ثقافية بالدرجة الأولى، وحين تتراجع الثقافة فإن ذلك يستلزم بالضرورة تقهقر الفكر، وتغدو (اللافكرية) هي الانتماء الوحيد الميسر الذي لا يحتاج إلى الحديث عن أدبيات النظريات والمذاهب، وبذا تغدو انتماء من لا انتماء له!! وهذا فعلًا ما يقابله من معاني التصحر الفكري ولكن بظاهرة عكسية ألا وهي زحف العقول، ومنها هجرة العقول التي تعد من أهم العوامل المؤثرة في التطور. هناك أيضًا اشتغال النخبة بتوافه الأمور واتباع التقليد والبحث عن لقمة العيش وانتظار الوظيفة فأصبحنا عاطلين عن العمل لأن العمل هنا غير مجدٍ نقتل كل إبداع وفكر لأن ذلك يعد خطرًا على وجود البعض. لذلك لا يجد المبدعون فينا مكانًا لهم في مصرهم، حيث يجدون من يتبناهم ويستقطبهم ويدعمهم ويوفر لهم سبل الإبداع والابتكار ويقدمون لهم كل التسهيلات. جامعاتنا نظرية وتعاني من التصحر، ومراجعنا أجنبية واعتمادنا على الآخر كثير ومضنٍ، وأرضنا خصبة وثرواتنا متعددة لكنها منهوبة، والموجود منها لا يسمح لنا بتصنيعه لنبقى معتمدين على الآخر. لعلي هنا أرى أن التصحر ضد الإبداع والابتكار، وهو ضد الحرية والفكر ، وهو ايضا ضد التقدم والتنمية، وهو نقيض الحياة.. وباختصار فإن التصحر يعني الموت.. والتصحر الفكري شكل من أشكال الموت. إن للإبداع منابعه الذي يغذي الفكر ويطلق الإبداع كالقراءة والتحرر الفكري من التبعية والتقليد والنمطية السائدة التي تجفف مداد الفكر ويزحف عليه التصحر وكلنا يعرف أن الإبداع يحارب وتوصد كل الطرقات أمامه لأنه خروج عن المألوف. إن أزمة الفكر عندنا أزمة مفصلية ومعالجتها ستستمر طويلًا إن لم نلحق بزماننا.. وبمصرنا