تعتقد بعض التيارات السلفية المتشددة أن صحافة ما أطلق عليها «صحافة النخبة» قد أفسدت علي الناس كل مرافق ووسائط حياتهم، ويري بعض زعمائها أن الصحافة النخبوية أسهمت بصورة مقصودة في تعطيل مصالح العامة، بل ويذهب غلاة الرأي منهم أن هذا النمط الصحفي أتلف أخلاق الناس ومزق روابطهم وكانت لها في حياتهم الخاصة والعامة أسوأ الأثر . ولا يستطيع منكر أن يخفي حقيقة مفادها أن بعض التيارات الإسلامية المتشددة في مصر وبعض البلدان العربية نجحت في صناعة عدو في الداخل اسمه صحافة النخبة، واستطاعت في فترة زمنية قصيرة أن تلصق بهذه الصحافة العديد من التهم التي لا تخرج عادة عن إثارة الفتن السياسية، ومحاولات تعميم الصيحات الليبرالية الفجة، وأخيراً ما تثيره الصحف والمطبوعات التابعة للتيارات الدينية بأن صحافة النخبة هي مخطط خارجي لضرب استقرار الوطن وزعزعة معتقداته الثابتة. والغريب أن الصحافة التابعة لثقافة النقل القائمة علي السمع والطاعة لم تقدم دليلاً دامغاً لتوصيف ما يسمي بالصحافة النخبوية أو صحافة النخبة، والتي يمكن أن نوصفها بأنها النمط الصحفي الذي يتحري الدقة والموضوعية و تميل علي الاتزان بمعالجة القضايا وتركز علي التحليل والشرح والتفسير وتأويل الأحداث والوقائع الزمانية والمعاصرة بصورة محايدة، مهتمة في ذلك بإعلاء شأن العقل وضرورة إعمال الفكر في كل طرح ثقافي أو سياسي أو اجتماعي، وتوزيعها التجاري أقل لكن مادتها أعمق. الشعبوية بخلاف الصحافة الشعبوية أو الجماهيرية التي تنقسم إلي قسمين؛ قسم رسمي تتمثل في الصحف القومية اليومية التي أصبحت عادة شرائها من مستلزمات الحياة اليومية للمواطن الذي اعتاد أن يقرأ العناوين العامة لها دون الولوج في التقاط تفاصيلها الدقيقة من أخبار أو مقالات أو تحقيقات. وقسم ظهر بشكل سريع في ظل النجاح المؤقت لثورة الخامس والعشرين من يناير والمرهون باقضاء حالات الانفلات الأمني، هذا القسم راح يؤجج لثقافة الرفض للنخبويين باعتبارهم من سمات العقود الثلاثة المنصرمة ،بل وعمقت الفجوة بين صحافة تدعو إلي نهضة العقل وبين الأغلبية التي ارتأت أن صحافة النخبة هي التي ساعدت الطغاة في الوصل إلي الحكم عن طريق التأييد المطلق وفي هذا لغط شديد. هذا اللغط تبين في انتفاء وجود صحافة الأغلبية المطيعة قبل الثورة، ولولا وجود صحافة غير موجهة سياسياً ما قامت ثورة من الأساس، لأن الكلمة الحرة التي لم تقيدها هراوات البوليس، ولا غازاتهم السامة والدخانية هي التي دفعت الآلاف من الشباب المثقف نحو رفع راية العصيان في وجه الظلم والفاسدين والمفسدين، وليت الأغلبية المطيعة تتذكر التوصيف الذي أطلق علي شباب الثورة وقت اندلاعها بأنهم شباب الفيس بوك والماويس والكيبورد والثوار الافتراضيين، أي أنه لم نر توصيفاً دينياً يذكر لهؤلاء الثوار، ولو سألت أحداً منهم عن مصادر ثقافته لأجابك علي الفور بأنه استقاها من كتابات النخبة أي أولئك الذين تحروا الدقة والموضوعية في الرصد والتحليل لكل ممارسات النظام السياسي البائد. ولابد أن نؤكد قبل الخوض في سرد مواقف تاريخية تعكس العداء الموجه لصحافة النخبة، لنا أن نشير إلي أن هذا النمط الصحفي الرصين استطاع عبر سنوات أن يكسب ثقة المواطن الذي أصبح بالضرورة مشاركاً فاعلاً في أحداث مجتمعه، من خلال النقد المباشر والخفي لأي مظاهر فاسدة علي الصعيدين السياسي والاجتماعي، بخلاف أصحاب الصحافة الموجهة لأغلبية مطيعة مستهدفة، فعملت الأخيرة إلي اتباع سياسات التخزين المعرفي، مع الحرص علي تجنب المواجهة مع القوي المؤثرة في صناعة القرار السياسي، وأيضاً القصور في التفاعل مع الأحداث الإقليمية والدولية. الأغلبية المطيعة والفرق واضح وجلي بين الصحافة النخبوية التي لا تعني أبداً صحافة الصفوة من المثقفين بل صحافة العقل والفكر، وبين صحافة الأغلبية المطيعة التي تجسدها صحافة التيارات الدينية الإسلامية المعاصرة، حيث الأولي تسعي جاهدة إلي تثوير الثقافة وتحريك العقل بخطي ثابتة نسبياً نحو تأويل الحراك الذي يعيش فيه الفرد، أما الأخيرة فهي اعتادت اقتناص الفرصة للتغلب علي حالة ركودها المستدام في المشاركة في هذا الحراك، لذا نجد في الوقت الذي تحرص عليه صحافة النخبة في الحديث عن الظروف الراهنة ومشكلات الوطن المتعلقة بإعداد الدستور ومعارك الانتخابات الرئاسية وكيفية تحويل شعارات الثورة «عيش حرية عدالة اجتماعية» من مجرد رموز صوتية إلي خدمات وطروحات ملموسة ومعاشة . بينما نجد صحافة أغلبية السمع والطاعة تلقينا بقوة في بحر مائج مضطرب وسط قضايا خلافية بل تكاد تكون هامشية لا يصح الحديث عنها في ظل وطن يعاني ويكابد أكثر مما يطمئن ويستقر. الغريب أن التاريخ دائماً يحمل صفعات قوية لأولئك المراهنين علي صحافة لا تقبل سوي السمع والطاعة لأوامرها ونواهيها، وهو ذاته التاريخ يحفظ صوراً بعينها لبعض رموز صحافة النخبة التي استطاعت أن تحرك المياه الراكدة، ولا نقصد بالصحافة ونحن نتحدث عن ميزان التاريخ الذي وازن بين النخبة والأغلبية الصحافة الورقية المطبوعة التي لم تظهر إلا حديثاً، إنما نقصد بها حركة الفكر المغايرة للثقافة السائدة والمسيطرة علي القلوب والأسماع دون الفهم والإفهام. فالإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والمحدِّثين صاحب المسند، يمثل نموذجاً نخبوياً ضد أغلبية السمع والطاعة، ولا يمكننا وصف موقفه بالمتشدد، بل بالعقلاني والقدرة الجلية المستنيرة في فهم آيات كتاب الله تعالي ومحنته التاريخية المعروفة أيام ملك المأمون والمعتصم والواثق، حتي الإمام ابن تيمية الذي احتكر الفكر الديني المتشدد آرائه دون منازع أي بالوصف الإعلامي حصرياً، هو نفسه أيضاً نموذج للنخبة المثقفة في زمانه والرافضة لحركات الجمود وعزل العقل عن مناخ مجتمعه المعاش . السياسات القمعية ويعد الفقيه ابن حزم الأندلسي النموذج الخصب لثقافة النخبة في مواجهة الأغلبية الموصوفة بالسمع والطاعة دون مناقشة بفضل بعض السياسات الثقافية القمعية المانعة والرافضة لأي تجديد، والتاريخ يذكر كيف أن الخليفة الأندلسي المتعضد بن عباد أمير إشبيلية جمع كتبه وأحرقها لأن فكره لم يوافق المذاهب الشائعة والشعبوية في ذلك الوقت، وفي ذلك يقول ابن حزم: دعوني من إحراق رق وكاغد / وقولوا بعلم كي يري الناس من يدري فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي / تضمنه القرطاس إذ هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي / وينزل أن أنزل ويدفن في قبري أما حينما نصل إلي المعارك الصحفية الورقية بين النخبة والأغلبية فخير مثال عليها العميد الدكتور طه حسين، الذي ينال القسط الأكبر من الغضب والمنع والرفض والمصادرة من جانب التيارات الدينية بوصفه أحد الخارجين علي ناموس ثقافة السمع والطاعة، وأنا شخصياً حضرت عشرات الندوات التي نظمتها بعض التيارات الدينية خصيصاً للنيل من قامة طه حسين، وبلغ النيل منه جوانب فكره وشخصيته وعمله العام، وهو بلاشك يمثل منعطفاً خطيراً في حركة العقل والفكر والثقافة عموما في مطلع القرن العشرين بما أسهم به من منهج علمي قد يتعارض مع ثقافة الأغلبية التي تتميز بالتحشيد. ولطه حسين نفسه قصة مع أصحاب ومؤيدي صحافة الأغلبية الطيعة وهو الشيخ المهدي، فكانت للدكتور طه حسين مقالات نشرت بجريدة «السفور» انتقد فيها أسلوب ومنهج الشيخ المهدي في دراسة وتدريس الأدب العربي، وهو أحد المنتمين للنزعات الأصولية السلفية بينما ينتمي طه حسين إلي صحافة النخبة، فما كان من الشيخ المهدي وكعادة الأصوليين الذين لا يقبلون المناقشة لم يلجأ إلي كاتب سطور النقد بل لجأ إلي الجامعة وتقدم بطلب لشطب الدكتور طه حسين من بين خريجي الجامعة ودشن أيضاً الشيخ المهدي مجموعة من المقالات لمهاجمة فكر طه حسين، ولولا جرت المصالحة بينهما لتطور الأمر في صالح أغلبية السمع والطاعة. ونظراً لغياب الحضور الثقافي لطه حسين وغيره من أمثال قاسم أمين والشيخ علي عبدالرازق في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كان ذلك كفيلاً لأصحاب الدعوات التكفيرية لتحشيد الأغلبية المؤهلة لتقبل ثقافة السمع والطاعة برفض هؤلاء المفكرين جميعاً، بل ووضع تصور مطلق بأن الصحف التي كانوا يكتبون بها تسير علي دربهم ووفق هواهم المنشود. وهذه المعارك التي شنها الأصوليون ضد مفكري النهضة تعكس ضيق أفق هذه التيارات بالمناهج النقدية الحديثة وبالطروحات الفكرية التي تتجه نحو التنوير، ليس هذا فحسب بل وقدرتها في تأجيج مشاعر الغضب والكراهية تجاه المنادين بالأخذ بأسباب النهضة . النافذة الناقدة وربما تظل الحرية هي البقعة الفاصلة بين صحافة النخبة وصحافة الأغلبية المطيعة، والحرية رغم أنها حق إنساني مشروع، إلا أنها أصبحت مشكلة واقعية إذا ما اقترنت بارتكاب فعل الكتابة الصحفية، وليس غريبًا أن تكون هولندا هي أول بلد يتمتع بحرية الصحافة في العالم، عام 1695 م، ولكن في ظل المد الثقافي السمعي والتعبوي نسبة إلي التعبئة تشكل الحرية تلك خطراً علي مطامح ومطامع البعض ممن ينظر إلي الصحافة علي أنها مهنة كشف المستور والمسكوت عنه، فبات من الأحري قمع تلك الحرية التي لا ينبغي أن تنعم بها الصحافة لاسيما المستنيرة والتي أطلق عليها علي سبيل الخطأ غير المقصود صحافة النخبة. وفي الأنظمة الديكتاتورية عادة ما يلجأ الحاكم المتسلط إلي صحافة الأغلبية التي يحكمها منطق السمع والطاعة في مواجهة أصحاب العقول النافذة والناقدة لسياساته غير الديمقراطية، وهو في ذلك يدرك حقيقة مفادها أن المعركة بينه وبين صحافة النخبة هي معركة عقول في المقام الأول، ويعلم أن وجود حفنة من العقلاء والمفكرين يعد أمراً مقلقاً لبسط نفوذه في البلاد، فيعمل جاهداً علي تكريس سلطاته وهو علي علم بأن أرض المعركة تبدأ من داخل الرأس وليس عن طريق الرصاص، أما إذا فشل في استقطاب صحافة الأغلبية وتكميم أفواه صحافة النخبة فإنه يلجأ عادة إلي استخدام الأساليب القمعية المعتادة من حبس وتعذيب ومصادرة واستخدام القوة. ولا ينكر جاحد أن التيارات الدينية نجحت في صناعة صحافة خاصة بها استطاعت من خلالها تمرير بعض الطروحات الخاصة بأيديولوجياتها ضمن هذه الصحف التي وجهتها إلي الأغلبية المؤهلة إما للسمع والطاعة أو لقبول الأفكار المقدمة إليه سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، ونجحت في استغلال فشل وتقاعس كافة المؤسسات الدينية التي لم تكن تخاطب سوي الصفوة واستخدمت في ذلك خطاباً دينياً قلما ما وصل إلي رجل الشارع البسيط، لذا هذا المواطن هرع سريعاً نحو نمط صحافي يتحدث عن وجهه وملامحه ومشكلاته. ووسط ما يجد هذا المواطن نفسه في صحافة موجهة يجد خبراً أو معلومة أو فتوي أو رأياً دينياً سرعان ما يأخذ به ويعده صواباً محضاً . ولذلك تجد هذه الصحف عدداً لا بأس به من القراء الاعتياديين أي الذين يبحثون عن مخدر مؤقت لأوجاعهم وهمومهم اليومية، وتلك الصحف نجحت بالفعل في خلق عالم افتراضي أشبه بمواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر بينها وبين أغلبية السمع والطاعة، هذا العالم الافتراضي هو جنة البسطاء المستقبلية التي تتحدث عن خبر القبض علي أحد رموز النظام السابق بتهمة فساد جديدة، أو التشهير بفنان أو فنانة بسبب أعماله التي تضعف الدين ووجوب محاربته ومحاربة ما يبثه من فجور، أو الحديث عن استشراف غد مشرق بإذن الله تعالي. ووسط هذا التعارك المستدام بين صحافة النخبة وصحافة السمع والطاعة، ينبغي علي الصحافة أن تقوم هذه الأيام بدور شديد الأهمية والخطورة علي السواء، وهو توجيه المواطنين بأطيافهم وانتماءاتهم المتباينة بالمرحلة الراهنة التي تشهدها البلاد وهي انتخابات رئاسة الجمهورية التي ينبغي ألا تعد غزوة جديدة نحو الصناديق الانتخابية، بل هي معركة وطن بأكمله لا مجرد معركة طائفية بين تيارات فئوية تسعي إلي المغالبة لا المشاركة .