أود أن أشير إلي أهمية وضرورة وإلحاح الحاجة إلي وضع أطر مهنية وأخلاقية تحكم الممارسة الصحفية والإعلامية المرئية والمسموعة علي اختلافها, وهي تكتسب أهميتها من ذاتها وارتباط أية مهنة من المهن بمجموعة من القواعد المعيارية القانونية والمهنية والأخلاقية التي تحكم ممارستها, وتؤدي إلي تطورها, ومن ثم إلي تبلور خبرات لها عبر الممارسة التاريخية, وأيضا إلي إنتاج تراكمات تؤصل لعملها, وتضبط الممارسة السائدة في نطاقها. ثمة أهمية استثنائية عديدة الجوانب والأبعاد لحاجة الصحافة والإعلام المصري إلي وضع أطر مهنية وأخلاقية جديدة تؤطر الممارسة المنفلتة عن عديد المعايير المستقرة علي المستوي الدولي المقارن, ويمكن لنا رصد ذلك فيما يلي: 1 تراجع مستويات الأداء المهني ومعاييره في الممارسة الصحفية والإعلامية السائدة, والتي تحولت مع ازدياد نمو الصحف والأقنية الفضائية المتلفزة, إلي نمط لا معياري مهنيا في غالبه, وقلة قليلة هي التي تلتزم بالمعايير المهنية عموما, بل إن بعض القنوات التي تعلن عن التزامها ببعض مواثيق الشرف الإعلامية, تقوم في أحيان عديدة بخرق قواعدها. 2 شيوع ثقافة مضادة للقانون والنزعة المعيارية عموما في المجتمعات العربية, بل وفي مصر علي وجه الخصوص, خلال عديد العقود الماضية, كنتاج لممارسة سلطوية ونخبوية ذات طابع شمولي كانت تركز علي الأداء والإنجاز أيا كان شكله ومدي شرعيته من الناحية القانونية أو الإدارية. بيئة مهنية وصحفية وإعلامية تكرست خلالها بعض النزعات والقيم والسلوكيات السلبية التي أدت إلي تدهور المهن الصحفية والإعلامية المصرية. 3 ساهمت الثقافة السياسية والقانونية التسلطية المهيمنة منذ ثورة يوليو, وحتي اللحظة الراهنة, في تكريس الممارسة الاتباعية للسلطة والنخبة السياسية الحاكمة في الإعلام الرسمي المقروء والمرئي والمسموع, وتحديدا الصحف القومية عموما فيما يتصل بالشأن العام, ترتب علي ذلك عديد الآثار السلبية, ومنها تمثيلا لا حصرا ما يلي: أ سطوة التوجهات الحكومية في مجال الممارسة الصحفية والإعلامية علي كافة عناصرها الخبرية والتحقيقية والمعلوماتية... إلخ, مع إهمال الجوانب الموضوعية الأخري, السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية الأخري, أو تهميشها, أو ابتسارها في الإعلام عنها. ب توظيف السلطة والنظام المصري, ونخبته الحاكمة للأجهزة الإعلامية كآلة دعاية سياسية وانتخابية في الانتخابات البرلمانية, والمحلية, وفي الاستفتاءات العامة. ج بروز العقل الإعلامي ذي البعد الواحد, وسيطرته علي غالب الممارسات الإعلامية للانتخابات علي اختلافها من منظور مصالح وتوجهات النظام الحاكم. د ثمة ضوابط قانونية وإدارية صارمة علي حرية وصول الصحف والصحفيين خاصة والإعلاميين عامة إلي المعلومات, بالإضافة إلي النصوص التشريعية المقيدة للحريات العامة, لاسيما حرية الرأي والتعبير, وبما أثر ولا يزال علي حرية الصحفي والإعلامي في ممارسة طليقة من القمع وقادرة علي تقديم الآراء والقيم والمصالح المتنافسة في الانتخابات العامة, وفي السوق السياسي والحزبي والصحفي. ولابد من ملاحظة بعض من الوسن الفكري والمهني وضعف التكوين, وكراهية الثقافة تشيع بين بعض الصحفيين والإعلاميين, وبروز بعض' الجهلاء الجدد' كنجوم إعلاميين كما أشرنا إلي ذلك منذ عقد التسعينيات, الأمر الذي جعل بعضهم أمثلة للنجاح لدي الإعلاميين والصحفيين الجدد, ومن ثم نبذ بعضهم للقيم والتقاليد المهنية والثقافة وعمق المعالجة كمعايير للنجاح, بل يعد الصحفي والإعلامي المثقف والمهني رمزا للفشل لدي بعضهم.. واأسفاه! ه الافتقار إلي خبرات وتقاليد مصرية تتصل بالثقافة الانتخابية وآلياتها في أطر تنافسية ديمقراطية, وترتكز علي قواعد تتسم بالمساواة والحيدة والنزاهة من الجهات الإدارية القائمة بالإشراف علي الانتخابات العامة في أثناء تطبيق القواعد القانونية والتنظيمية والإدارية, وفي التعامل مع الإعلاميين عموما والصحفيين علي وجه الخصوص لاسيما في الصحف المعارضة والخاصة. ولا شك أن المرحلة الوجيزة التي اشرف القضاء فيها علي العملية الانتخابية بعد حكم القضاء الدستوري ذائع الصيت قاض لكل صندوق شهدت بعضا من التغير الإيجابي الذي أثر علي بعض مستويات المعالجة الإعلامية للانتخابات علي الرغم من نقص المهنية في الممارسة الإعلامية عموما والصحفية علي وجه الخصوص, إلا أن ذلك لم يؤثر كثيرا علي نوعية الممارسة في كثير من أجهزة الإعلام الرسمية, أو الصحف الخاصة أو المعارضة, التي اتسمت كذلك بالتحيز سواء في عرض الآراء والبرامج والأفكار والصور والأخبار, وفي بنية تحقيقات ومقابلات اتسمت بنزعة تحيزية وسجالية بامتياز. بعض الصحافة الخاصة والحزبية تأثرت بمواقف الممولين, ورؤساء الأحزاب المعارضة إزاء المرشحين, بل وبرز في بعض الأحيان تحيزات لبعض مرشحي الحزب دون بعضهم الآخر لاعتبارات تتصل بالموالاة لرئيس الحزب أو المجموعة المسيطرة علي مقاليد الأمور داخله. السؤال الذي يطرح دائما في مجال الممارسة السياسية والحزبية والإعلامية بل والاجتماعية في مصر منذ عديد العقود: هل تساهم التشريعات القانونية, وتغليظ العقوبات الجنائية, أو الإدارية أو المهنية أو مواثيق الشرف, في مواجهة المشكلات لاسيما المهنية؟ ثمة توجه سلطوي ومعارض بل وشعبوي ينزع إلي أن مواجهة غالبية المشكلات الاجتماعية والسياسية والمهنية يتم عبر تغليظ العقوبات أو مد النزعة التجريمية إلي نطاقات كانت تقع تحت دائرة الإباحة والمشروعية. إذا نظرنا إلي عديد الظواهر الاجتماعية والإجرامية وكيف تمت مواجهتها حكوميا سيتأكد لنا ما سبق رصده, وهو ما نلاحظه في تزايد تهريب وتعاطي المواد المخدرة, إلي السرقات بالإكراه, إلي ظواهر البلطجة وممارسة العنف, والعنف الطائفي وازدراء الأديان, وغيرها من الظواهر الاجتماعية السياسية التي تحتاج إلي رصد لتاريخها وعواملها وأسبابها وتطوراتها, ومجالاتها, والفاعلين في إطارها, حتي يتم إنتاج حزمة من السياسات والاستراتيجيات والآليات للتعامل معها. التوجه الرسمي والمعارض والشعبوي السائد لدي غالب شرائح اجتماعية عديدة, هو مجرد التجريم, وتغليظ العقاب, وهو اتجاه شاع منذ وصول الضباط الأحرار إلي السلطة علي خلفية ثقافة الحسم والردع والتجريم والعقاب المغلظ , وتعايشت معه بيروقراطية جهاز الدولة, والأمن, والسلطة التشريعية من آسف, ولكن لم يحقق هذا التوجه السلطوي والمعارض والشعبوي أية نجاحات هامة في حل المشكلات ومواجهتها. من هنا برزت ظواهر مختلفة تشير إلي خطل هذا النمط من السياسات يمكن رصده فيما يلي: 1 ظاهرة الانفصال بين الأطر القانونية الجنائية والإدارية والواقع السياسي والاجتماعي والإعلامي... إلخ الفعلي والتطبيقي, وعدم تأثر بعض الممارسات اللاقانونية أو اللا معيارية بالمنظومات القانونية. 2 تراكم المشكلات وتكالبها وانفجارها, وبروز مجموعة من الممارسات المضادة للمهنية وتقاليدها, لاسيما في الصحافة والإعلام الحكومي الذي ظل في الغالب تعبيرا عن الصوت السلطوي الواحد وعندما يستدعي أصواتا نقدية, يتم ابتسار آرائها ووجهات نظرها النقدية, ناهيك عن استبعادات ممنهجة لشخصيات مستقلة, أو معارضة من إبداء آرائها النقدية في القنوات التلفازية, لاسيما الأكثر مشاهدة من المتلقين. 3 برز خلط في الصحف القومية والمعارضة والخاصة بين الإعلان والإعلام سواء كجزء من سياسة الصحيفة, أو خلط لا مهني ومدفوع لبعض العناصر الصحفية أو الإعلامية بما شكل ولا يزال خطورة علي الممارسة المهنية. 4 ثمة تدهور مهني وتكويني بالغ الخطورة, حيث أعداد كبيرة تدخل المهنة وهي تفتقر إلي الحد الأدني من التكوين والتأهيل المهني والاحترافي, والأخطر الثقافي, بحيث بات واضحا أن بعض الصحفيين لا يجيدون الإملاء والكتابة, والأخطر لا يستوعبون بعض المفردات والمصطلحات السائرة والشائعة! المهن الإعلامية عموما والصحفية خصوصا في خطر, وتحتاج إلي معالجة شجاعة وشفافة وعلنية, لأنها أخطر من أن تترك للصحفيين والإعلاميين, أو لنقابتهم, في ظل تراجع دور ومكانة المهنة في بلادنا, إذا ما قورنت بأوضاعها عالميا, وعربيا.