على مدى الأسابيع القليلة الماضية، تلقيت مجموعة من الأسئلة المتباينة من قبل إعلاميين يعملون فى وسائل إعلام مسموعة ومرئية ومكتوبة، تتعلق بمسائل مثيرة للجدل والخلاف ضمن العمل الإعلامى، وتمس حقوقاً قانونية وإنسانية وأخلاقية ودينية لأطراف عديدة. من بين تلك الأسئلة سؤال حول الأزمة التى أثيرت جراء نشر «الأهرام» الصورة «المفبركة» للرئيس مبارك وعدد من القادة، وهو السؤال الذى سعى الإعلاميون، وغيرهم من المهتمين، إلى الحصول من خلاله على إجابة مانعة قاطعة تدين «الأهرام» باعتبارها ارتكبت «مخالفة مهنية صارخة» كما قال نُقادها، أو ترفع الحرج عنها لكونها «قدمت صورة تعبيرية كما تفعل صحف عالمية أخرى» كما قال القائمون عليها. أما السؤال الثانى، فقد تعلق بإقدام قناة فضائية مصرية على عرض المسلسل الإيرانى «يوسف الصديق»، وهو المسلسل الذى يجسد أحد الممثلين فيه شخصية نبى الله يوسف، فيما يجسد ممثل آخر شخصية جبريل عليه السلام. لقد سعى طارح السؤال تحديداً إلى الحصول على إجابة واضحة وباتة توضح ما إذا كانت تلك الخطوة التى أقدمت عليها القناة وصناع المسلسل تتسق مع القيم والمعايير المهنية الإعلامية، أم تخل بها وتتجاوزها. ومع اشتعال حدة المواجهات الإعلامية بين رموز وقيادات قبطية وإسلامية، على خلفية الاحتقانات الطائفية المتصاعدة، سأل إعلاميون عن صحة قيامهم بنشر ما يصل إليهم من أنباء وقصص، حتى لو كان من الممكن أن يسهم فى تأجيج الاحتقان الطائفى وتحدى الجو العام وصب الزيت على النار. وحاول هؤلاء الإعلاميون معرفة الخطوط الفاصلة بين حق الجمهور فى المعرفة فيما يتعلق بالتلاسن والتأجيج الطائفى الفج من جهة، وضرورة الحفاظ على الأمن القومى وصيانة المصلحة العامة بعدم بث الأخبار التى يمكن أن تثير الفتنة أو تسهم فى تصعيدها، حتى لو كانت تلك الأخبار صحيحة، من جهة أخرى. وقبل أسبوعين، سألنى صحفى يعمل فى صحيفة عربية سؤالاً مباشراً حول التقييم المهنى والأخلاقى لما أقدمت عليه وسائل إعلام مصرية حين نشرت صور كريمة الدكتور محمد البرادعى بملابس السباحة، وما إذا كان هذا النشر يصب فى حق القارئ فى المعرفة، خصوصاً أن البرادعى يطرح نفسه كزعيم للمعارضة، أم أنه ينتهك الحقوق الأخلاقية والإنسانية للحياة الخاصة لكريمته، ويمثل تعدياً عليها، ولا يتقاطع مع المصلحة العامة وحق المعرفة فى شىء. الأمر ذاته تكرر حين كنت ضيفا فى حلقة من حلقات برنامج «حديث الساعة»، على «بى.بى.سى» العربية، لمناقشة قضية تتعلق بحق موقع «ويكيليكس» فى نشر وثائق سرية يمكن أن تعرّض حياة جنود وعملاء سريين للخطر، وما إذا كنا مستعدين فى العالم العربى ومصر لمواجهة تحديات مثل ذلك النشر إذا تعلق بسر عسكرى أو استخباراتى، وما القواعد المهنية المنظمة لمثل ذلك السلوك. بعدها بأيام قليلة كان صحفى صديق يعمل فى صحيفة «العربى» الناصرية يسألنى مباشرة عن تفسيرى لعدم نشر خبر مهم عن «تحويل عمال أحد المصانع إلى المحاكمة»، وما إذا كان السبب فى عدم النشر يتعلق برقابة الدولة، التى حجبت الخبر، لأن العمال أحيلوا إلى محكمة غير مدنية، أم يرجع إلى الرقابة الذاتية، التى خضع لها البعض وتجاوزها آخرون، وما الحكم المهنى والقانونى والأخلاقى المتعلق بنشر مثل تلك الأخبار. وقبل يومين، سألنى صحفى آخر عن الرؤية المهنية إزاء ما صرح به الأمين العام للمجلس الأعلى للقضاء من أن «المجلس يدرس اقتراح حظر التصوير داخل المحاكم، وأنه فى طريقه لإصدار قرار يمنع التصوير قريباً»، وهو الموضوع ذاته الذى كان مثار سؤال وجهه إلىّ المذيع اللامع معتز الدمرداش فى إحدى حلقات برنامج «90 دقيقة». تلك الأسئلة وعشرات غيرها تُطرح فى المجال العام المصرى كل يوم، وهى أسئلة يريد الجمهور أن يصل إلى مقاربات رشيدة إزاءها، كما يريد الإعلاميون، الذين يعملون فى الميدان، أن يعرفوا إجاباتها، ليرشدوا عملهم، ويتفادوا الأخطاء، ويتوصلوا إلى ممارسة مهنية تحقق لوسائلهم الجاذبية والانتشار والاتساق مع القواعد المهنية والأخلاقية فى آن واحد. تمتلك المنظومة الإعلامية المصرية ميراثاً من مواثيق الشرف، وثمة اتحاد مهنى نشط ولجان تقييم، ويسبق هذا كله عدد لا بأس به من كليات الإعلام ومعاهده، وعشرات من شيوخ المهنة وأساتذتها الناشطين فى المجال، لكن الأسئلة تتزايد، والإجابات تنضب، أو تتضارب، أو تنزع نحو الانتهازية والخطل. والواقع أن أكثر ما يحزن المرء أن معظم من يناط بهم الإجابة عن تلك الأسئلة المنهمرة على واقعنا الإعلامى ومجالنا العام لا يحسنون رداً، ولا يتبنون معياراً مستنداً إلى منهج، وأن أغلبهم يستسهلون، فيسعون إلى الحسم على طريقة «فى أوروبا والدول المتقدمة يفعلون كذا». أما ما ينذر بالخطر، ولا يلتفت إليه أحد، فهو أن منظومتنا الإعلامية العريقة ستظل منشغلة بمثل تلك الأسئلة وأكثر منها، وجمهورنا سيظل حائراً ومضللاً، وإعلاميينا سيظلون مشتتين فى عمل لا تحكمه قواعد ولا أسس واضحة، إلى أن تطور منظومتنا الإعلامية تنظيمها الذاتى. كيف نطور التنظيم الذاتى للإعلام المصرى؟ هذا ما سنجيب عنه فى مقال مقبل.