لا يغيب عن مخيلتي مشهد الشيخ آق شمس الدين شيخ السلطان العثماني محمد الفاتح، حينما كان يرُكب الأمير الصغير فوق فرسه ويسير معه على قدميه بالقرب من أسوار القسطنطينية - استنابول الآن - ويُحدثه بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم - (لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ) – واه أحمد-. ولقد أفلحت طريقة هذا الشيخ الجليل في أن يجعل الأمير الصغير يحلم منذ الصغر بأن يظفر بهذا اللقب أو الوسام الذي أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم على فاتح القسطنطينية. فلقد عاش هذا الأمير الصغير عمره وهو يحلم بهذا اللقب (فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا). ورغم أن محاولات فتح القسطنطينية بدأت منذ زمن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان في عام 44ه ، غير أن هذه المحاولات لم يكتب الله لها النجاح. واستمرت هذه المحاولات منذ هذا العام ( 44 ه ) إلي أن منَّ الله بفتحها في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857ه الموافق 29 مايو 1453م على يد السلطان الغازي محمد الفاتح.. وفاز محمد الفاتح بهذا اللقب الذي عاش عمره يبحث عنه ويسعى إلي تحقيقه (فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا)، وفاز جنده بلقب (وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ) . فما أجمل العيش مع الله! وما أجمل أن تعيش تبحث عن لقباً عند الله وليس عند الناس ! ولكن للأسف الشديد نرى الكثيرين يجدون ويجتهدون للبحث عن لقب (علمي) أو منصب (عملي) كي يحظى برفعة ومكانة عند الناس! فترى أحدهم - مثلاً -يسهر الأيام والليالي الطوال ليحظى بحرف (د) قبل اسمه – أي الدكتوراة - وإن سألته عن مردود هذا الجد والإجتهاد لا تسمع منه إلا البحث عن المكانة والرفعة عند الناس – إلا من رحم ربي -. وكم من الألقاب والأوسمة النبوية التي زهد فيها الكثيرين، فلا نجد عند الناس همة في الجد والإجتهاد ليحظى بلقب عند الله! فاز أبو بكرالصديق باللقب القرآني (ثَانِيَ اثْنَيْنِ ) فلقد كان ثاني اثنين في الغار يوم الهجرة (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) – التوبة40- ، ولكنه كان من قبل ثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى! وفاز باللقب النبوي (الصديق) حينما سارع إلي تصديق خبر الإسراء والمعراج، ولكنه كان صديقاً من قبل حينما كان أول من صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وحظى عمر بن الخطاب بلقب الفاروق فور اسلامه حينما وقف في أول لحظة من اسلامه أمام الرسول – صلى الله عليه وسلم – قائلاً: ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ فقال له الرسول – صلى الله عليه وسلم – : بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متّم وإن حييتم. قال: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لَتَخرجنّ .. فأذن له صلى الله عليه وسلم بالاعلان، وخرج في صفَّيْن، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر .. حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط وسمّاه رسول الله يومئذ الفاروق. هكذا كان الفاروق واضحاً مع نفسه، صادقا مع ربه، فكان فاروقاً بحق. ورحم الله عبد الله بن مسعود حينما قال: كان إسلام عمر فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمارته رحمة. وظفر عثمان بن عفان بلقب ذي النورين، لأنه تزوج اثنتين من بنات الرسول – صلى الله عليه وسلم – رقية وبعد وفاتها تزوج من أم كلثوم – رضي الله عنهن -. أي أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – رأى في عثمان من الخصال والأخلاق ما جعلته – صلى الله عليه وسلم – يزوجه بإبنتيه، الواحدة تلو الأخرى . وحينما ماتت السيدة أم كلثوم اعتذر له النبي صلى الله عليه وسلم عن مصاهرته للمرة الثالثة! قائلاً: « لوكانت عندنا ثالثة لزوجناكها يا عثمان». وهكذا تنافس الصحابة على حصد الألقاب النبوية والأوسمة الربانية، فعلي بن أبي طالب أبو تراب الفدائي ، وأبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وخالد بن الوليد سيف الله المسلول، وحمزة بن عبد المطلب أسد الله، وحواري الرسول الزبير بن العوام، وحنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة، وشاعر الرسول حسان بن ثابت، وأم المساكين زينب بنت خثيمة، وترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس، وخطيب الرسول ثابت بن قيس، وذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، وإمام المهاجرين سالم مولى أبو حذيفة، ومؤذن الرسول بلال الحبشي ..والقائمة تطول ! روى الطبراني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ صِيتٌ - أي: شهرة ومكانة - فِي السَّمَاءِ فَإِنْ كَانَ حَسَنًا وُضِعَ فِي الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ سَيِّئًا وُضِعَ فِي الْأَرْضِ » - صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: 5732-. قال المناوي: " وأصل ذلك ومنبعه محبة الله للعبد أو عدمها فمن أحبه الله أحبه أهل مملكته ومن أبغضه أبغضه أهل مملكته ويؤخذ من ذلك أن محبة القلوب للعباد علامة على محبة الله والعكس بالعكس". وقد يعجل الله بإنتشار لقب الإنسان في الدنيا - دون إرادة من الشخص صاحب اللقب -، بأن يقذف الله بذكره في قلوب الناس. روى مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟! قال: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ. وقد دعا الخليل ببقاء ذكره بين الناس قائلاً (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) – الشعراء 84 -. قال الإمام محمد أبو زهرة – رحمه الله – في زهرة التفاسير:" وإن لسان الصدق يكون بعده بأمور، منها أن يكون ذكره حسنا صادقا من بعده، بأن يكون أثرا محمودا من بعده، ويكون نافعا بعد مماته كما كان نافعا في حياته، ومنها أن تكون دعوته إلى الحق باقية من بعده يرددها الناس، ويدعون إليها، ومنها أن تكون له محبة ومودة بين الناس من بعده، كما كانوا يودونه فيِ حياته، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) – مريم 96 -. هذا، وإن النص الكريم يدل على أن حب المحمدة بين الناس ليس أمرا غير صالح ما دام يقصد إليها النفع والخير، وعموم الإصلاح وما دام لَا يتعالى ولا يستطيل على الناس ". إنها دعوة لأن يبحث كل واحد منا على لقب عند الله، يُلقب به في الملأ الأعلى. وقديماً قالوا: ألسنة الخلق .. أقلام الحق! فيكون هذا اللقب انعكاساً لسيرته العطرة، فالصديق كان صديقاً – حقاً -، والفاروق كان فاروقاً مع نفسه أولاً ثم صار فاروقاً مع الناس، وعثمان كانت أخلاقه تشع من جوانبه نوراً فحظى بنور ونور على نور، وأبو عبيدة أمين، وثابت خطيب، وابن عباس حبر، وخالد سيف، وحمزة أسد، وأنت من تكون؟! والله من وراء القصد HossamGaber.BlogSpot.Com أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]