"الشرطة انسحبت" عبارة أنيقة ستر بها الإعلام الفلولي المجرم ما قام به جنرالات حسني مبارك في جهاته الأمنية عندما أصدروا أوامرهم إلى كل أفراد الشرطة بترك مواقعهم والعودة إلى بيوتهم وزادوا على ذلك بفتح السجون في محاولة للدفع بأكبر عدد من المجرمين وقاطعي الطريق في الشارع، كما قاموا بتنشيط كل خلايا البلطجة التي يمتلكون خريطتها ومفاتح المجهول فيها، والحقيقة أن تلك الخطة كانت من الإحكام بحيث يمكن اعتبارها الحدث الأكبر الذي تلي ثورة يناير، والذي كان قادرًا بذاته على إجهاض الثورة وإعادة الناس إلى بيوتهم ليضعوا خلف أبوابها كل أثاث البيت خشية اقتحام اللصوص، ولم يكن اغتسال الشرطة من حدثها الأكبر بعد الثورة عسيرًا فقد قام المجلس العسكري بتغطية خطأها وستر على الجريمة الكبرى بكل ما أوتي من قوة وسطوة. كلمة الانسحاب العسكري يمكن فهمها في موقف محدود من مثل انسحاب قواتنا من سيناء مرتين في عهد رئيس واحد ومشير واحد أو انسحاب فريق كرة القدم من المباراة اعتراضًا على سوء التحكيم، أما ما قامت به الشرطة إبان الثورة فإنه لم يكن أبدًا لا انسحابًا ولا إضرابًا ولا ضعفًا وإنما كانت خطة موضوعة سلفًا كخط دفاع ثانٍ في مواجهة الثورة وقد نفذته القوات النظامية الشرطية بمنتهى الدقة.. غير أن الوقوف عند المشهد بهذه البساطة لا يعطي الدلالة الحقيقية للواقع الأمني بصفة عامة. لعل بحث الأمر من أساسه يتطلب منا الإجابة عن السؤال الذي يتهرب منه الجميع وهو: ما هو المعين الذي كونت منه مصر شرطتها على مدى الثلاثين عامًا الماضية؟ ولعلي لا أُذيع سرًا عندما أقول إن المعين كان هو الحزب الوطني الديمقراطي ذلك الكيان الذي لم تتردد محاكم مجلس الدولة في حله حتي بدون قواعد قانونية تحمل حكمها ودونما اعتراض حتى من أعضائه… وسرعان ما تجد من يرد متعجلًا: إنه نفس المعين الذي أخرج لنا تقريبًا كل رجال الإعلام الرسمي والخاص وأخرج لنا أيضًا رجال العدالة الذين يقاومون الثورة أيضًا مع إخوانهم في الشرطة وهو المعين الذي أخرج لنا أيضًا معظم النخبة الحالية المغتسلة منها أوتلك التي لم تزل على نجاستها. ومع اتفاقي وأولئك الذين يساوون بين الشرطة وغيرها من المرافق الحساسة في الدولة والتي ملأتها ذريات الحزب الوطني آثامًا والتي تجد نفسها اليوم مهددة في ميراثها من أبائها الذين تحاصرهم الأجهزة الرقابية وتسقط كل يوم منهم مجرم جديد إلا أن جهاز الشرطة خرج علينا منذ أيام بدور جديد في مسلسل الثورة المضادة، فبعد اختفاء المهزومين منهم عامين أو زد عليهم قليلًا يعودون اليوم رافعين شعار أن مهمة الشرطة هي الأمن الجنائي فقط وأن خلافات الحكومة مع الشعب والتي يعقبها احتجاجات ومظاهرات وخرطوش ومولوتوف ليس من مهام الشرطة مواجهته لأن الحكومة هي التي تسببت فيه وليس من مهمة الشرطة قمع المضرورين من أخطاء الحكومة وسوء إدارتها، ورغم أن القول مفضوح مصدره "مهروش" غرضه إلا أن الأمر لا يخلو مما يضحك وهو بالتأكيد شر البلية، فهؤلاء الأشاوس الذين يريدون حفظ الأمن دون العمل السياسي هم من فتحوا السجون للبلطجية والخطرين وانسحبوا، وهؤلاء الأشاوس هم من امتنعوا عن العمل عامين كاملين بحجة أن حالتهم النفسية منهارة بعد أن استرد الشعب كرامته التي انتهكوها، وأولئك المغاوير هم من حولوا مصر إلى دولة بوليسية كأسوأ ما يكون النموذج القمعي في إدارتها. والأمر لا يقف عند الذكريات الأليمة التي يختزنها الشعب المصري للمضربين الفلاسفة الذين يريدون أن يفرقوا بين ما هو سياسي وبين ما هو أمني طبقًا لرؤيتهم ومصلحتهم ومصلحة أقاربهم في النظام البائد وإنما الأمر أخطر من ذلك، فجهاز الأمن في مصر وبكل صراحة هو جهاز غير محترف لا في مواجهة الجرائم الجنائية ولا الاضطرابات السياسية، فكتاب الإجراءات الجنائية المقرر على الفرقة الرابعة في كلية الحقوق هو صلب عمل وفكر أي شخص يهتم بالأمن الجنائي أو يعمل به ولعلي لا أذيع سرًا هنا عندما أقول وأتحدى أن يُعقد امتحان في هذا الكتاب فقط لضباط الشرطة كذلك الذي تعرض له المدرسون قبل نحو ستة أعوام فيما عرف بامتحان الكادر.. هذا الكتاب فقط أيها الفلاسفة المفرقون بين الأمني والسياسي نطالبكم بفهمه وهو أمر لو يعلم الناس عسير، سيجيب كثيرون من الفلاسفة أن في مصر خبراء أمنيون "على أعلى مستوى" وهى عبارة نسمعها في كثير من المرافق المصرية كالقطارات والتعليم والثقافة، وربما يزيدون أن هؤلاء حصلوا على فرق دولية في دول غربية وأمريكية ولم يخبرنا هؤلاء الفلاسفة إن كان هؤلاء "الأعلي مستوى" قد حصلوا على تلك الدورات باللغة العربية أم بلغات الدول التي زاروها، وهل كانت تلك الدورات في مجال مكافحة الإرهاب؟ أو بعبارة أدق في مقاومة المد الإسلامي؟.... لا تخدعونا.. فنحن نعرف أنكم تحتاجون إلى تأهيل طويل حتى تكونوا بحق شرطة، تأهيل نفسي لإزالة آثار الثورة من نفوسكم وزرع قيم جديدة تقوم على احترام الإنسان دون تفريط في المهارات الشرطية والتي يتعلق أغلبها بالتعامل مع التكنولوجيا والأجهزة وهي أمور لا أعتقد أن هذا الجيل من الشرطة المصرية قادر على استيعابها.... ولا تخدعونا فنحن نعلم أن إضرابكم الآن هو استكمال لانسحابكم من قبل تهيئة لموجات من العنف تسقط معها الدولة.. ولا تخدعوا أنفسكم فلن تعود أبدًا دولتكم التي أزلناها. لقد سجن الذي كنّا نخشاكم في عهده فاعملوا صالحًا حتى نحترمكم في العهد الجديد. [email protected]