المنافق في الإصطلاح الشرعي هو من يظهر خلاف ما يبطن من مسائل الإيمان، واسمحوا لي هنا أن أعرف المنافق السياسي بأنه "ذو مصلحة قادر على الوصول إليها أو المحافظة عليها لتمكنه من التلون السياسي بلون السلطة المعاصرة واحترام قانونها على نحو يستر به المكر بها والكيد لها سرًا"، ومن أمثلة هؤلاء الجواسيس والعملاء وأولئك يصعب التعامل معهم سياسيًا لاستتارهم على نحو منظم ومرتب وإنما تتعامل معهم أجهزة التحري والبحث، ولكن ما أعنيه بالنفاق السياسي بالذات تلك العناصر الفاعلة في الحركة السياسية قبل الثورة والتي كانت سندًا وحصنًا للنظام كانوا رموزًا للحزب الوطني أو لم يكونوا وانطبق عليهم قانون العزل أو لم ينطبق وهذا ما يميزهم عن وصف الفلول، فرب "فل" سفيه عاش في كنف النظام السابق جاهلًا بعظم جرمه يأكل ويشرب كما تأكل الأنعام صادق فيه قول أمير الشعراء: ولكنها حكمة السائمات : وفلسفة غير بنت اختيار وكلتاهما لا تعدي الشعور : بحب البقاء وخوف الدمار وإنما أعني هنا طائفة من مجرمي العهد البائد استفادت منه وظاهرته حتي جاءت الثورة ففرت وانكمشت حتى استدعاهم المجلس العسكري جملة دون تخصيص بما انتهجه من سياسات طمأنت كل القوى المعادية للثورة والتي ذعرت واختفت شهورًا بعد نجاحها فجاءت تلك الطائفة وجاهدت بكل ما أوتيت من قوة وسلطة ومال وفكر واقناع لإعادة انتاج العهد البائد وبعد أن مر الدستور تحاول الآن إعادة إنتاج نفسها بمظهر جديد ولباس مختلف حتى تستطيع أن تتسلل مرة أخرى إلى مواقع تستطيع من خلالها الكيد والمكر والإفساد. ومن خلال طوفان المصالحة - الذي تنادى به بعض القوى ليل نهار حتى تجعل منها ملجأً احتياطيًا تفر إليه بعد فشلها في مؤامرة إفشال الثورة – أعتقد أنه من السهل تسلل تلك العناصر إلى تلك المواقع بسبب الخلفية الثقافية التي مازالت تعلق في أذهان كثير منا، فلقب سيادة المستشار مثلًا يقدم لصاحبه تقديمًا يجب كثيرًا من التساؤلات حول ماضيه حسنًا كان أم سيئًا، ولقب سيادة اللواء أيضًا يوحي بالانضباط والصرامة وهى مؤهلات يظن البعض أنها كافية لشغل كثير من المواقع، أما رجال الأعمال فحدث ولا حرج عن "أخيار" ينفقون بالنهار جزءًا مما نهبوه بالليل وتمحوا صدقاتهم وابتساماتهم جرائم الاحتكار والنهب وهكذا تجد في كل مجال سادة لا يستطيع القانون أن يصل إلى مكنون إجرامهم خاصة ما كان منه شفويًا يعتمد على الوساطة والمحسوبية فلا يصل إليهم قانون العزل وتبدو صحفهم الجنائية ناصعة البياض وهؤلاء هم مكمن الخطر في الوقت الحالي. إن فكرة المصالحة السياسية التي تحاول بعض القوى الإسلامية الوصول إليها هى في رأيي خطأ محض في الفترة الحالية وتبدو فكرة الحزم الثوري والسياسي والقانوني أقرب منها إلى تحقيق المصلحة فالمصالحة كانت خيارًا استراتيجيًا لمرحلة ما بعد الثورة حتى نفاذ الدستور، أما وقد مرت تلك المرحلة بحشد كل مفردات الدولة العميقة الإعلامية والسياسية بل وحتى داخل الأجهزة البيروقراطية للدولة فأعملت خلالها الإضرابات والاضطرابات التي لم تخل أبدًا من شهداء قدموا أرواحهم حماية للمسار الثوري وفي سبيل الله وانتهاء الآن بأعمال نفاق اقتصادية أقرب ما تكون إلى نظرية خيبر وبنو قينقاع فإن الحسم الثوري يستلزم في رأيي اليوم التمايز على الأقل إلى ما بعد مرحلة الانتخابات التشريعية، فالغرب غرب والشرق شرق وهما لا يلتقيان وكذلك يجب أن تكون الحركة الثورية بعد نفاذ الدستور، لذلك فإنني أربأ بكل حزب وطائفة وجماعة أن تمد يدها للمتسللين مرة أخرى إلى العمل السياسي أو الاقتصادي أو حتى الحكومي، فالمتربصون بالشعب يجب أن نحمي الشعب منهم وخاصة منهم ذوي الألوان الواضحة والتاريخ الجلي. إن الدستور يظلنا جميعًا الآن وإن سقف احترام القانون لا يعلوه سقف، فلا يمكن أبدًا إرغام الأحزاب أو الحركات التي شاركت وعضدت وظاهرت الثورة على وضع يدها في يد أفراد أو حركات أو طوائف دينية عادت الثورة وحاولت إجهاضها وحشدت أموالها ورجالها ونساءها وداخلها وخارجها لإسقاطها بدون وعي وبشكل كان أقرب إلى الهستيريا منه إلى العمل السياسي، لذا فإنني أهيب بالحركات السياسية الوطنية أن تحترم الشعب فتظهر أمامه بلونها الصافي دون ممالأة أو ملاءمة ودون أن تكون مضطرة إلى احتضان "المنافقين" حتى يقال إن ثمة مصالحة في الطريق وليختر الشعب من يشاء. إن مواجهة قوى النفاق السياسي والاقتصادي اليوم هى واجب الوقت من وجهة نظري وإن بسط التعريف ليشمل أكبر قدر من تلك القوى أولى من قبضه، وإن غل يد الشعب عن الوصول إليهم سيمكنهم من بسط أيديهم إلى الشعب بالعداء والأذى، ولعل ما يسمى بجبهة الإنقاذ التي تدير الآن نفاقًا سياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا سافرًا ومنظمًا لإسقاط الدولة هي أولى تلك القوى بالمواجهة والردع، فإن اختاروا النزول إلى الشارع في حشد طائفي جديد فعلى قوى الثورة أن تنزل في نفس الأماكن التي يدعون إلي النزول فيها، فليس من المنطق أن تنسحب القوى الثورية لتفسح المكان "لإخوان ماكين" لبعث الحزب الوطني الديمقراطي من جديد ولا مانع في سبيل استشعار هؤلاء عن بعد إنشاء جهاز في كل حزب ينتمي بحق للثورة لكشف تلك العناصر وإبعادها وتجلية تاريخها الأسود المستور دون التوقف عند حرفية نصوص القوانين أو الالتزام جانب الحيطة في وقت الأولوية فيه لجانب الحذر والاستبيان. [email protected]