كانت سعادتي كبيرة وأنا أشاهد عبر بعض القنوات الفضائية العربية ووكالات الأنباء الكبرى زيارة الحجاج الجزائريين لنظرائهم المصريين في مخيمهم بمنى وتقديم التهاني لهم في صبيحة عيد الأضحي أو يوم النحر، وقولهم لبعضهم البعض "نحن أشقاء.. دم واحد ودين واحد ومصير واحد، أما الكرة فهي شأن الصغار وخلافاتها لا تعني الوطن في شئ، لا تزيده انتصاراتها ولا تقلل منه خسائرها". سعادتي الأكبر كانت رسائل الهاتف الجوال والايميل التي جاءتني من أشقائي بعض الصحفيين والاعلاميين في الجزائر، ثم بعض الحوارات الهاتفية التي جرت أمس معهم وتركزت على حالة الهدوء التي عادت إلى الشارع الجزائري بداية من وقفة عرفات، والتي لم ينل منها مقال كتبه الزميل الأستاذ أبو زكريا وزيتوت وأعني به الصحفي الجزائري أنور مالك المقيم في باريس، والمطارد بمذكرة توقيف من سلطات بلاده إلى الانتربول لمحاكمته عن مقالات كتبها عن الفساد والمفسدين بدءا من الرئيس بوتفليقة إلى الوزراء والجنرالات، والسجل الأسود للدرك. أنور مالك وهو ضابط سابق في قوات الدرك التي كانت تحارب الجماعات الاسلامية، كتب مقالا في الشروق الجزائرية قبل عدة أيام يرفض فيه المصالحة أو التهدئة مع مصر، إلا إذا اعتذرت وتابت عن تاريخ يمتد ربما لخمسة آلاف سنة. مطلوب من مصر الاعتذار عن ما حدث على أرضها لسيدنا يوسف وسيدنا موسى عليهما السلام، وعن الأسلحة الفاسدة في حرب 48 التي كانت في رأيه سببا في إعلان دولة اسرائيل وإحتلال فلسطين، وعن الأسلحة الفاسدة التي يزعم أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أرسلها لجيش التحرير الجزائري خلال ثورة الاستقلال، ثم ايفاده بعد ذلك إلى الجزائر لتعريبها مجموعة من أعداء نظامه أراد أن يتخلص منهم، فنشروا التطرف الديني الذي عانت وتعاني منه الجزائر حتى الآن وكان سببا في الدماء الغزيرة التي سالت أنهارا في جبالها وأحراشها طوال تسعينيات القرن الماضي! ومن هؤلاء الذين يقصدهم أنور مالك الشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي. ويبدو أن تجربته الشخصية مع أبو جرة سلطاني زعيم حركة حمس التي أسسها الشيخ محفوظ نحناح تركت في نفسه هذا الانطباع السوداوي عن كل ما يمت للدعوة وللحركات الاسلامية وخصوصا الاخوان. بسبب المصريين يعلن مالك كفره بالعروبة، والحمد لله أنه توقف عند ذلك ولم يصل الأمر للاسلام أيضا. يرفض أن يقول أي جزائري عن مصر إنها شقيقة، فهي لا تستحق ذلك، ولابد أن يستمر الخلاف معها إلى يوم الدين. تحدث أنور مالك واسمه الحقيقي عبدالمالك نوار عن أن إحدى الفضائيات المصرية حاولت تجنيده ليتحدث ضد وطنه خلال أزمة الكرة الأخيرة، لكنه بوطنيته رفض ذلك، وأعطى لمن اتصل به درسا في حب الوطن والدفاع عنه في المحافل الدولية، فهو يشارك أبناء الجزائر فرحتهم بانتصار منتخبهم، ولا يمكن أن يخذل فرحة أمه التي يشتاق لقهوتها وطعام شعيرها. قال لي الأصدقاء الجزائريون: يبدو أن مالك يحن لقهوة أمه فعلا، فكتب هذا المقال العنيف، فربما نصح من أصدقائه السابقين في الدرك والاستخبارات بانتهاز الفرصة لعله يفلت من مذكرة القبض عليه ويسمح له بالعودة إلى حضن والدته دون أن يعود إلى معتقل سركاجي الذي تعرض فيه للتعذيب، واستمع فيه لقصص بشعة منها قطع العضو التناسلي لأحد المقبوض عليهم من الجماعات الإسلامية، وهو الذي قال عن مالك فيما بعد عبر جريدة الشروق نفسها بأنه بعد خروجه من السجن اتهمهم باللواط الجماعي وأرشد عن مكان الهاتف المتحرك الذي كانوا يتواصلون به مع الخارج! ليس أنور مالك من يعطي الجزائريين درسا في المحافظة على سمعة بلادهم، فلا يوجد مثله من أساء إلى هذه السمعة ووضعها في الحضيض عبر حديثه ومقالاته المستمرة في الخارج عن التعذيب والفساد والعملاء حتى أنه يصف وطنه بأنه أسير المفسدين واللصوص والعملاء والمخابرات! يتحدث دائما عن ملف أسود في عهدته لفترة الحرب على الاسلاميين في التسعينيات، لدرجة أنه عندما طلبت حكومة بلاده من الانتربول توقيفه، اعتبر أن الجنرالات يخشون أن يكشف هذا الملف لا سيما أنه أعلن عن قرب اصداره لكتاب يتناول تلك الفترة. لم يترك شيئا في الجزائر إلا ولطخه بالسواد، حتى خيل لي شخصيا أنه يتحدث عن سجن كبير لا يترك شبرا حرا يسوده العدل في بلد المليون شهيد، وكنت بالفعل متعاطفا معه، لا سيما أنه تعرض بالفعل للتعذيب والقهر، وقد تقدم للجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة عما لحق جسده أثناء اعتقاله. وبرغم ذلك التعاطف، لم أصدق يوما أنه غاضب من التنكيل والقتل الذي لحق بالأبرياء في جبال الجزائر وفي منطقة القبائل بواسطة الدرك، فقد كان أحدهم باعتباره ضابطا في وحدة مكافحة الإرهاب، وظل ساهرا شاهدا ولا استبعد مشاركته أيضا في المأموريات القذرة دون أن يهتز له رمش، ولم يغادر وطنه إلا عام 2001 ليس بسبب يقظة ضمير وإنما لأن حقه من الغنائم لم يكن متناسبا في نظره مع ما رآه من ثروة هبطت في أيدي الجنرالات الذين يكبرونه رتبة ونفوذا، فتحول إلى حاقد عليهم بالاضافة إلى أحد ملفاته السرية التي كان يقوم باعدادها لرؤسائه، وأحدها أراد به تصفية حسابات شخصية مع الزعيم الاخواني "أبو جرة سلطاني" ، فاتهمه بأنه كان وراء تسفير الجزائريين للجهاد في أفغانستان بالتنسيق مع عبد رب الرسول سياف أحد أبرز قادة الجهاد الأفغاني، لكن الملف لسوء حظه اصطدم بحسابات السلطة وعلاقة رموز الدولة في ذلك الوقت مع حركة "حمس" والمجال لا يسمح بذكر المزيد من التفاصيل هنا. أظن ومن معطيات كثيرة أمدني بها أصدقاء في الجزائر أن الصحفي والضابط السابق يحقد على كل ما هو إسلامي، وهجومه على مصر والمصريين يصب في ذلك الاتجاه، فقد أخرج الموضوع من ملعب الكرة إلى المساس بشعب يرى أنه مذنب طوال تاريخه ولا يستحق أن يعيد الجزائريون الهدوء معه، وكان قد أدلى بحوار لصحيفة اليوم السابع قبل مباراة أم درمان يهدد فيه بمنطق جنرالات الدرك "الدم بالدم"..! عموما لن تغفر مواقف أنور مالك الجديدة له في الجزائر فملفه متخم بالاتهامات، وهناك من حذره من العودة التي ستكون هذه المرة هي الاختفاء التام داخل أحد السجون وتحويل ملفه إلى الأرشيف، فلن ينسوا له الكثير مما كتبه في الصحف ومواقع الانترنت وقاله في بعض البرامج التلفزيونية ومنها مع الدكتور فيصل القاسم في برنامجه الشهير الاتجاه المعاكس وكتابه عن الفساد الذي طبعه في مصر وتناول فيه الرئيس بوتفليقة بالكثير من الذم مما لا يمكن التسامح معه. باختصار.. لن تكون خلاف الكرة المصري الجزائري الكوبري الذي سيعبر منه أنور مالك إلى قهوة وشعير والدته متعها الله بالصحة.