انتهت المباراة فلتنم الفتنة ولنقف عند حقائق المنافسات الرياضية بكونها ترويحا للنفس وتدريبا على التفوق في المجالات الجادة من الحياة. الطبيعي هنا أن يتقبل الخاسر هزيمته بروح عالية، فركلة لاعب في المرمى لا تعني إنتصارا للوطن ولا لفكرة الاقليمية الضيقة. المتوقع هنا أن يقول المصريون للجزائريين: مبروك. وأن يرد الجزائريون: شكرا ونتمنى لكم الأفضل في المباريات القادمة، ثم ينفض الجميع لأعمالهم وللواقع ولا يعطون الأمر أكثر من حجمه الرياضي. نخرج من هذه المقدمة إلى استقراء لما حدث خلال الفترة الماضية مواكبا لتلك المباراة التي أصبحت في ذمة التاريخ. أولا: ربط المشروع الوطني بنتائج الكرة خطأ فادح، لأن الأمر هنا لن يخرج عن الهزل والهاء الناس بقضايا لا تسمن ولا تغني من جوع. فهل نقل عنتر بن يحيي صاحب الهدف الوحيد في المباراة الجزائر من دول العالم الثالث المتخلفة إلى دول العالم الأول موازية للولايات المتحدة واليابان، ولو جاء هدف من تسديدة أبو تريكة أو انفراد زيدان أو كرة المحمدي، هل ذلك كان سيعني الأمر نفسه لمصر؟! ثانيا: غياب المشروع الوطني الحقيقي مع ظهور إعلام جاهل يقوده مجموعة غير مدربة تدريبا كافيا، جعل الشعب يفرغ مخزونه النفسي والعاطفي في منافسات الكرة، واستغل قادة العمل السياسي هذا الاحساس ببشاعة، فأوهموه أن هناك معركة أو مشروعا للوطن، ووصل ذلك لذروته بعد انتهاء مباراة زامبيا مباشرة، ولم يضع هؤلاء في اعتبارهم أن الهزيمة واردة سواء في مباراة السبت الماضي بالقاهرة أو مباراة السودان. رأينا شحنا معنويا غير مسبوق حتى في الحروب ضد اسرائيل، قابله الطرف الجزائري بوضع مصر في خانة "العدو" وبتوجيه سباب غير مسبوق في لغته ومفرداته وسوء أدبه، فوصفوه بالخائن وشبهوه بالنساء وبالمتهاون في قضايا الأمة المتنازل عنها، وحملوه مسئولية تدمير وتجويع وحصار غزة متعاونا مع اسرائيل، ثم تلقفوا شائعة مقتل جزائريين في القاهرة، فحاصروا بيوت الجالية في الجزائر وكادوا يذبحونهم، وخرجت صحيفة الشروق "الأسود" متباهية بأن هؤلاء "الأبرياء" من عمال وموظفين الذين يتفانون في خدمة البلد الذي يستضيفهم، وزوجاتهم وأطفالهم، أغلقوا أبواب بيوتهم خوفا ورعبا وكانوا يصرخون من الداخل كالحريم!.. فهل هذه هي رجولة وشهامة الجزائريين التي عهدناها عبر التاريخ الطويل في مقاومة الاحتلال الفرنسي؟! ثالثا: تم الانفاق على هذا المشروع الوطني الوهمي ببذخ شديد. في المباراة الأولى وصلت المكافأة لكل لاعب إلى ستة ملايين جنيه، وهو ما يقارب في الاجمالي 200 مليون جنيه غير مكافآت الجهاز الفني وما تم انفاقه على معسكر أسوان والانتقالات إلى الخرطوم والرحلات الجوية التي أقلت آلاف البشر.. خرج جزء من هذه الأموال من الحزب الوطني حسب تصريحات صفوت الشريف، وساهمت الحكومة بوزاراتها المختلفة ورجال الأعمال في بعضها الآخر.. فهل هؤلاء كانوا سيقبلون أن يوجهوا مثل هذه الأموال للفقراء ولبناء منازل لمن يعيشون في عشش وعشوائيات وتحت الأحجار المتساقطة من الجبال كما في منطقة الدويقة، والتي صدر بشأنها تقرير دولي قبل يومين بأن الموت دفنا تحت الصخور ما زال يتهدد الآلاف الذين لم تنقلهم الحكومة من أوضاعهم السابقة رغم الحادث السابق الذي مات فيه أعداد كبيرة. رابعا: من الصدف المريرة أن الكاميرات التلفزيونية ركزت قبل بدء المباراة على حسن شحاتة وهو يفتح فمه متثائبا، وعلى وجهه علامات السهر، ربما لأنه وهو مجرد مدرب للعبة وجد نفسه مسئولا عن مشروع قومي وأحلام أكثر من ستة وثمانين مليون نسمة! خامسا: كشفت الأحداث خلال الفترة الماضية تراجع فكرة العروبة والإسلام وحلت محلها فكرة عنصرية ضيقة.. المصري لمصريته والجزائري لجزائريته، الأعلام تداس هنا وهناك أو توضع في نعوش. والأخطر هو ما ظهر من تراجع شديد للتعريب في الجزائر، فبعد نحو نصف قرن من الثورة الجزائرية وجهود التعريب، نكتشف أن كثرا من الجزائريين لا يجيدون التحدث بالعربية، ثلاثة لاعبين دوليين في المنتخب الحالي على سبيل المثال لا ينطقون ولا يفهمون كلمة واحدة منها وإنما يتحدثون الفرنسية. الناس في الشوارع والهتافات تتحدث بالفرنسية أو بلهجة أمازيغية غير مفهومة. يقال هذا عن بيئة أنجبت أفذاذا في الأدب العربي مثل الطاهر وطار، والمفكر مالك بن نبي صاحب واحد من أهم كتب العربية في القرن العشرين "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" بالاضافة إلى كتب أخرى عديدة مثل الظاهرة القرآنية وشروط النهضة ووجهة العالم الإسلامي. وقبلهما الإمام عبدالحميد بن باديس الذي كان في مقدمة المدافعين عن عروبة الجزائر لسانا وأرضا في ذروة الاحتلال الفرنسي حيث توفي عام 1940. نكتفي بهذا القدر من ما نريده أن يكون دروسا مستخلصة من الفتنة.. لعن الله من أيقظها.