هناك نتائج أهم كثيرا من انتصار المنتخب المصري على شقيقه الجزائري وصعوده للنهائي وأهدافه الأربعة في مرمى منتخب سيلعب في المونديال بعد شهور قليلة. هذه المرة جاء التحضير المعنوي بعيدا عن التسييس من الجانب المصري، فيما غرق فيه الجانب الآخر. عالجه الاعلام المصري طوال اليومين اللذين سبقا اللقاء بطريقة رياضية دون اعطائه أكثر من حجمه، ولا اعلم ما إذا كان ذلك استجابة لأصوات وأقلام العقلاء والحكماء، أم أنهم بوغتوا بهزيمة كوت ديفوار وصعود الجزائر لمواجهتهم، ولم يتح لهم الوقت القصير بين هذا وذاك لتغذية الحناجر واعداد اغاني الحرب والجهاد! المهم هنا ما نستخلصه من درس لا يجب أن ننساه سريعا، وهو أن نتائج الكرة لا تعكس تقدم وطن ورفاهيته وحياته البمبي، وإلا هل كل هذا حدث في مصر في الفترة بين 18 نوفمبر الماضي يوم هزيمة أم درمان، و28 يناير؟!.. وهل انقلبت حياة الشعب الجزائري رأسا على عقب؟! الأهم أن عندنا شبابا يستطيع أن يبدع في مجاله الذي تخصص فيه ويطلق حيوية التحدي واثبات الذات والتفوق لو تركناه يعمل بعيدا عن تسلط السياسيين وسعيهم الدؤوب لاقتناص نتائج ركل الكرة لترسيخ سيطرتهم وأجندتهم. الذين سافروا لتشجيع المنتخب 135 شابا من مختلف المحافظات، ليس بينهم تلك الطبقة المخملية من فنانين واعلاميين التي سافرت يوم 18 نوفمبر لأم درمان بمعرفة لجنة السياسات وأحمد عز، لكنهم ضربوا أروع المثل في الرجولة عندما خرجوا أمام الكاميرات ليقولوا للعالم إنهم جاءوا لتشجيع الكرة والتفرج على مباراة ممتعة بين شقيقين بذلا مجهودا وصل بهما إلى أفضل أربعة فرق في أفريقيا، وفي النهاية مبروك للفائز، أما الخاسر فنقول له إنها رياضة لا تعني أكثر من الوقت الذي لعبت فيه. لم نر السيدين علاء وجمال مبارك، ولم تخرج علينا البرامج الرياضية التافهة التي طالعتنا قبل 18 نوفمبر باغاني النصر والشهادة، ولم يبالغ أحد في فضل المصريين على العرب أو في تفردهم بخصائص التفوق دون غيرهم، بل تحدث من أتيح له الحديث بابتهاج عن اداء الجزائريين أمام كوت ديفوار، فأسقط ذلك في يد الاعلام الجزائري ومن يوجهه، واعتبر ذلك نفاقا من المصريين، وحملت عناوين صحفهم مثل الشروق والخبر والفجر نفس الأسلوب الذي اتبعوه قبل وبعد 18 نوفمبر، حتى أن جريدة "الشروق" خرجت بمانشيت يوم المباراة يقول للاعبين "اقطعوا ألسنة من اهانونا وشتمونا".. بينما كتبت "الخبر" وهي صحيفة حكومية عن النفاق المصري المتمثل في الهدوء الاعلامي والسياسي كأننا فعلا مقبلون على حرب وليست مباراة، وكتبت "الفجر": قادمون إليكم يا قوم فرعون! وقد اتصل بي اعلامي جزائري كبير في غضون ذلك طالبا باخلاص وحب لعروبته وللجزائر ومصر، بأن أنصح إن كنت استطيع توصيل نصيحتي للقائمين على الاعلام في مصر بعدم الالتفات لما تكتبه الصحف الجزائرية، فتيار "الفرنسة" هو السائد حاليا بمساندة فرع أمني نافذ ومتغلغل، وهؤلاء مهزوزون بعنف من الهدوء المصري، ويريدون اشعال الأوضاع من جديد، ويقومون بالضغط على الرئاسة لتخصيص طائرات عسكرية تنقل نوعية الأنصار الذين سافروا لأم درمان. وهذا يعني أننا وربما بدون قصد ساعدنا اخواننا المنتمين للعروبة والإسلام في الجزائر الشقيق على عدم اعطاء الفرصة للمتفرنسين والراغبين في عزل الجزائر وتحجيم تأثير مصر، لتحقيق ما نجحوا فيه قبل أكثر من شهرين. في النهاية هي مباراة.. مصر التي فازت يوم الخميس قد تهزم يوم الأحد، بما يعني أن تعبئة الناس بمشروع كروي عوضا عن المشروعات القومية الحقيقية، غلطة كبيرة ستؤدي في نهاية المطاف إلى احباط شعب وافتقاده للثقة في قدراته وعطائه، بالاضافة إلى أنه محبط فعليا من حياته ومعيشته وأوضاعه السياسية والإجتماعية. وبالتالي لا يجب أن ينتهي الأمر بالنتيجة الكروية التي تحققت على الجزائر، بل باستمرار التواضع واحترام بعدنا العربي. العرب العاديون تعاطفوا مع المصريين عندما رأوا خلال الأيام الماضية الفرق في الطرح الاعلامي بين الجزائر ومصر لصالح الأخيرة تعقلا وهدوءا وبعدا عن الكبرياء والتكبر وعدم الافتخار بالتاريخ والماضي والانجازات والمن بالفضل على الآخرين. شبابنا قادر على اثبات الذات بدون وصاية من أولياء الحكم والأغنياء الجديد والطبقة المخملية، فقد كان علم مصر مرتعشا في أيدي الفنانين الذين ذهبوا إلى أم درمان وراء المنتخب حتى قال البعض إنهم يبدون غير قادرين على حمله، في حين كان 135 شابا ذهبوا إلى انجولا نموذجا آخر، جعل الجماهير الجزائرية نفسها ويزيدون عن الألف يشجعون في هدوء وبروح رياضية، ويذهب بعضهم إلى المصريين ليقدموا لهم التهنئة على الفوز متمنين لهم الحصول على الكأس. المطلوب إذاً الاعتراف بأننا لدينا طاقة كامنة يجب تثويرها في المجالات الحقيقية القادرة على وضع مصر في مكانها الطبيعي والتاريخي، فلماذا لا نطلقها في السياسة بمنح الحريات والحقوق ومحاربة الفساد المستشري وتوفير فرص العمل، والتخلي عن منطق أننا شعب غير ناضج يحتاج إلى وصاية أو مرضعة، وأنه ليس هناك من يصلح لحكم مصر من الأجيال الشبابية سوى جمال مبارك! بالتأكيد هناك شباب في المجالات الأخرى قادرون على العطاء مثل مجموعة حسن شحاتة الكروية. منهم من يصلح لحكم مصر وتغيير حياتها إلى الأفضل، ومن يتقدم بالمجالات الصحية والاجتماعية، ومن يحمي استقرارها وأمنها اللذين يهتزان بشدة في الوقت الحالي أمام النوازع الطائفية التي يخلقها الفراغ السياسي والرغبة في اشغال الناس بصراعات وهمية تبعدهم عن التفكير في حاضر ومستقبل بلدهم. التجديد والاحلال سنة الحياة، وبدونهما يهتز الكون وتبور أراضيه وتعقم نساءه عن تغذيته بمن يعمره جيلا بعد جيل. رأينا منتخبا قادرا على العطاء والتحدي بالاحلال والتجديد، فبرزت أسماء جديدة اندمجت في العمل الجماعي البعيد عن الفردية والذاتية واختفت لغة النجم الأوحد والاسم اللامع والاسم الذي يستند على النفوذ بدون حق، وهذا نستطيع أن نراه في الطبقة الحاكمة بسهولة شديدة لأن مصر بالفعل ليست عقيمة، لكن مواهبها مدفونة ومركونة ومعرضة للصدأ في ظل سيطرة جيل واحد على الحكم، واستنادهم على مجموعة من المنتفعين الفاسدين الذين يمتصون الخير ويحرقونه في ملذاتهم. بعيدا عن السياسيين وذاتيتهم وتفكيرهم الأحمق في أجندتهم المستقبلية، اندمج المصريون بمسلميهم وأقباطهم لمدة تسعين دقيقة في عمل رفعوا خلاله راية التحدي لاثبات الذات بمنتهى الروح الرياضية، فهل نحن عاجزون عن أن ننهج الأمر نفسه في السياسة والصحة والصناعة والزراعة. الفساد والفقر والكراسي المؤبدة للجالسين عليها يخلقان معارك اجتماعية كالطائفية لا تخدم سوى مصالح المنتفعين.