أتخيل خطيبًا أُوتي من جوامع الكلم نصيبًا، مع بسطة في العلم، وفطرة نقية، وجمال هيئة، وحسن خلق، فجمع بين صفاء المخبر وبهاء المظهر، وبين إخلاص النية، وصدق الطوية، وزاد أن وهبه الله قبولًا بين الناس، فقام فيهم خطيبًا يحدثهم عن عبادة الخالق سبحانه، فأخذ بمجامع النفوس، ورنت إليه الأبصار، واقشعرت الأبدان، ووجلت القلوب، وأطرقت الرؤوس، واغرورقت العيون بالدموع، حتى أحسَّ أن قد هدي إلى ما يصبو إليه. وفي الجمعة التالية جاءه ثلاثة من مريديه ومستمعي خطبته ورواد مسجده فأخبروه أنهم منذ الخطبة الماضية التي بلغ تأثرهم بها كل مبلغ، تكاد معه قلوبهم أن تخرج من بين جوانحهم لتحلق في السماء، قلبت الخطبة أحوالهم، وغيرت معاييرهم، وبدَّلت موازينهم، حتى استوى عندهم الذهب والخشب، والمرأة والجدار، والحرير والتراب، وظاهر الأرض وباطنها. طلقوا الدنيا ثلاثًا وأقبلوا على الآخرة وطريقها، يعملون لها كأنهم يموتون غدًا، ولا يبالون أعملوا للدنيا أم لم يعملوا لها، فأمر الدنيا يسير، فليس هناك مَن يموت من الجوع. أتراه يحمد الله على ما أولاه، وأجرى على يديه من خير، وفتح له من القلوب، ووفقه لتحبيب خلق الله فيه، وإعانتهم على ذكره وشكره وحسن عبادته؟ أتراه يثني على هؤلاء الشباب، ويعرفهم أنهم قد وضعوا أرجلهم على أول الطريق إلى الله سبحانه، وأن عليهم الاستمرار فيما بدأوه، والاستزادة منه، فالهدف كبير، والعقبات كثير، يحتاج إلى عمل دؤوب، وزاد كثير، ونفس طويل؟ حتى ولو كان يعلم أنهم يومًا سينقطعون، سيفترون بعد أن كانوا مجدين، وسيكسلون بعد أن كانوا نشطين، وسيقعدون بعد أن كانوا إلى الله سائرين راكضين. ولكن ما له لا يغتنم كل لحظة من إقبالهم وجدهم ونشاطهم، لتكون رصيدًا في صحائفهم عند مَن لا يضيع أجر المحسنين، وليظلوا فيما بعد يحنون إلى مثل هذه اللحظات، التي اكتمل فيها الإيمان في قلوبهم أو كاد. قد أتخيل كل تصرف عقلي محتمل من هذا الخطيب. تصرف واحد لا يخطر على البال: أن يلومهم، أن يردهم، أن يقول لهم: لا لا تفعلوا، لقد أخطأتم فيما ذهبتم إليه، لم أُرد بخطبتي هذا منكم، ليس الإسلام كما تصورتم، هذا جزء مما يراد منكم، ولكنه ليس كل المراد، فما المراد إذن؟ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمَن رغب عن سنَّتي فليس مني". فالإنسان كما هو مخلوق لعبادة الله، مخلوق لعمارة الأرض، وكما أنه مطالب أن يؤدي حق الله تعالى، مطالب أن يؤدي لكل ذي حق حقه، فلنفسه عليه حق، ولبدنه عليه حق، ولأهله عليه حق، ولبلده عليه حق، وقد يمنعه التقصير في أداء هذه الحقوق الجنة ونعيمها، وقد تبلغ به هذه الحقوق - مع أداء الفرائض – من الجنة مكانًا عليًا. ليس تهوينًا من شأن الهدف الأول الذي خلق من أجله الإنسان، وهو معرفة الله وعبادته، ولكن إنصافًا للغرض الثاني من خلقه، وهو الخلافة في الأرض وعمارتها. فاطلب العلم طلبًا لا يضر بالعبادة، واطلب العبادة طلبًا لا يضر بالعمل، اطلب الدنيا طلبًا لا يخل بالآخرة، واطلب الآخرة طلبًا لا يخل بالدنيا. وازن بين الآخرة والأولى، وبين الحق والواجب، وبين حق الله وحق الإنسان، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. والحمد لله على نعمة الإسلام ورحمة الإسلام ووسطية الإسلام. وصلى الله على من علمنا به الله من جهالة، وهدانا به من ضلالة، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور.