اشتهرت بعض الكلمات لدى الناس، وصارت تعبيرًا لازمًا جاريًا على ألسنة كثيرين، مثل الانفتاح والانبطاح، وبين الكلمتين عموم وخصوص، أو اشتراك في بعض المراد منهما لدى مستخدمي الكلمتين، فالانفتاح يُراد به تقارب بعض الناس مع غيره، وتنازله عن بعض ما كان يعتقده أو يقوله لصالح التقارب مع آخرين، غالبًا ما يكونون من المخالفين له. والانبطاح مثل ذلك، غير أنه يكشف عن مزيد من التنازل الذي يخرج بصاحبه عن عقيدته أو مذهبه أو ما كان يقول به قبلُ، لصالح عقيدة أو مذهب أو أقوال أو إرضاء للآخرين. فالجامع المشترك بين الكلمتين هو التنازل، ولكنه في الانبطاح أشد وأنكى؛ لما يحتوي عليه من تنازل وتفريط يصل لحد الانهزامية أو التسليم للآخرين بما هم عليه، والتخلي بما كان عليه المنبطح قبلُ. وغالبًا ما يطالبك الآخرون بالانفتاح، للتعمية عما يريدون حقيقة، إذ لا يقبلون منك سوى الانبطاح التام، أو الانهزامية التامة، وهذا سلوكٌ قديم لسائر المخالفين، ويدل عليه قوله تعالى: «وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ» (البقرة:120). وهذا الانبطاح هو نوعٌ من الردة عما يعتقد أو يؤمن به الإنسان، من معتقدات وأفكار وآراء، ويدل على رخاوة في التمسك بهذا المعتقد أو الرأي، ومثل هذه الرخاوة لا تثبت طويلًا، أمام أي أحد مهما كان ضعيفًا. فهذا المذبذب في رأيه واعتقاده، سريعًا ما ينهار أمام الفتن، وفي مثل هذا نقرأ قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ» (الحج:11). وهؤلاء المذبذبون أو المنبطحون لا يقودون أُمة، ولا يصنعون حياة؛ إذ الحياة يصنعها الراسخون في اعتقادهم ومواقفهم النبيلة الشريفة، فلا ينحرفون عن الحق مهما قابلهم من فتن وشبهات، ولا يحيدون عن الشرف والنُّبل مهما ولغ الآخرون في الخيانة والكذب. ومثل هؤلاء النبلاء قليلٌ في الناس، غير أنهم كثير بمواقفهم ونبلهم وشرفهم وثباتهم، وقديمًا قال الناس: «الرجال مواقف». وأصحاب المواقف هم أصحاب السلطة والسلطان على الحقيقة وإِنْ جَهِل الناسُ أشخاصهم. وقد ذكروا في ترجمة الإمام الأوزاعي، إمام دمشق والشام والإسلام في زمانه: أن عبد الحميد بن أبي العشرين قال: «سمعتُ أميرًا كان بالساحل وقد دَفَنَّا الأَوْزاعِيَّ ونحن عند القبر يقول: رحمك الله أبا عمرو، فقد كنتُ أخافك أكثر ممن وَلَّانِي» أه. ولم لا؟ وقد كان أبو عمرو الأوزاعي رحمه الله رجل أُمة، وإمام عِلْم وجهاد عظيم، ورسائله ونصائحه لولاة الأمور في زمانه مشهورة معلومة ذكرها أهلُ العلم في ترجمته. وهذه على الحقيقة سمة بارزة، وعلامة ظاهرة لأئمة الإسلام عبر العصور؛ ولهذا خلَّدهم التاريخ بينما تجاهل عشرات ومئات المنبطحين عبر الأيام، لم يقف عندهم طويلًا، لعدم تأثيرهم. وما أروع ما قاله الرافعي: «ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما توجده بنفسك؛ فإن لم تزد شيئًا على الدنيا كنت أنت زائدًا على الدنيا؛ وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فقد وجدتها وما وجدتك» [وحي القلم2/68]. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختلط بالناس حتى أثَّروا في جسده الشريف، كما قال عبد الله بن شَقيق: قلتُ لعائشةَ: هل كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وهو قَاعِدٌ؟ قالت: «نعم؛ بَعدَ ما حَطَمَهُ الناسُ» [رواه مسلم732]. وعلى الرغم من اختلاطه بهم؛ فقد ظل عليه السلام ثابتًا راسخًا، لم يداهن أحدًا، ولم يتنازل عن الحق الذي أوحاه الله عز وجل إليه، وهذا درسٌ علينا حفظه ورعايته، خاصة في هذه الأيام التي فتحت الدنيا لبعضنا ذراعيها، ولنذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» [رواه البخاري4015، ومسلم2961]. وقد كان بعض الأئمة يهرب من القضاء والمناصب، خشية التنازل وعدم القيام بالواجب الشرعي على وجهه الصحيح، فكيف بنا؟. [email protected]