اعترف الجيش المصري بمسؤوليته عن مقتل "طفل البطاطا".. الاعتراف جاء بعد أن ساد اعتقاد بتورط الداخلية في الحادث. المفارقة ربما تعيد السؤال بشان الصور الذهنية المستقرة في الوعي العام، بشأن حوادث العنف التي تمارسها الدولة ضد مواطنيها، والتي عادة ما تلصق مباشرة ب"الداخلية" حتى لو لم تكن الأخيرة طرفًا في صناعته. بيان الجيش يأتي بالتزامن مع اللغط الجاري الآن بشأن مقتل الشاب محمد الجندي، إذ تظل الداخلية في بؤرة الاتهام رغم تقارير الطب الشرعي والنيابة العامة، التي تقول إنه قتل في حادث سيارة وليس تحت التعذيب بأحد معسكرات الشرطة، كما يتردد حاليا على الفضائيات، وما يصدر من أسرته من تصريحات. بيان الجيش يستحق "الشكر".. لأنه لأول مرة تعترف مؤسسة كبيرة في حجم ووزن وزارة الدفاع ب"الخطأ" وفي جريمة "دم" وسط أجواء ملتهبة ومتوترة، ويتصيد فيه الغاضبون من السلطة أية "خطأ" منها لتنفيس غضبهم إزائها، بلغت حد الاعتداء على مقر عمل الرئيس في مصر الجديدة. الجيش استن "سنة حسنة" تعتبر جديدة على ثقافة الإحساس بالمسؤولية، إذ تظل الدولة بكل مؤسساتها، تميل إلى الاعتداد بنفسها، إلى درجة "القداسة" والتعالي على الاعتراف بالخطأ إذا أخطأت، وكأنها دولة ملائكية لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها، وهو الاستعلاء الموروث من "الفرعونية السياسية" الذي لا يرى في المواطن إلا "حشرة" يحل للدولة دهسها بلا دية ولا عتاب ولا حساب. هذا المنحى الجديد، لو كان متبعًا منذ أمد بعيد لكفى الدولة مشقة إطفاء الحرائق التي ما انفكت تضرب هنا وهناك منذ سقوط مبارك وحتى الآن. وفي هذا السياق فإن "الداخلية" ستظل، في موضع المتهم دائمًا، في كل الأحداث المشابهة، وذلك لإرث التعذيب والقمع في سيرتها الأمنية منذ عقود طويلة وذلك من جهة، ولتمسك المؤسسة الأمنية بمنطق الاستعلاء وعدم الاعتراف بالخطأ، وغياب الشفافية، وسيادة نزعة التحايل والكذب على الرأي العام وخداعه من جهة أخرى. صحيح أن ظاهرة العنف السياسي المتنامية في الشارع المصري الآن، يرجع إلى أسباب كثيرة على رأسها غياب الرؤية السياسية من أدوات حل الأزمات المتفاقمة.. غير أن المؤسسات الخشنة، تتحمل جزءًا ليس يسيرًا من صناعة العنف، ليس بسبب أنها قفاز السلطة الباطش وحسب، ولكن بسبب غياب "الصدق" في عرض الحقائق على الرأي العام، رغم أن المسألة قد لا تكون متعلقة بأخطاء ممنهجة ومنظمة.. وإنما أخطاء أفراد من السهل إحالتهم إلى التحقيق وعرض نتائجه بأمانة على الشعب المصري، كما يحدث في كل الدول المحترمة التي تهتم بمشاعر وأحاسيس وحياة ودماء شعوبها. أنا على ثقة بأن اعتراف الجيش، سيخفف من المشاعر المحتقنة، وهو لن ينقص من قدره بل ربما يضيف إلى رصيده الأخلاقي والإنساني، فضلًا عن أنه ممارسة مسئولة من شأنها أن تخفف من التوتر وأجواء الغضب الشعبي.. ولعله يكون درسًا للآخرين من الذين لا يزالون يرون في الاعتراف بالخطأ "رذيلة" حتى لو على حساب مستقبل البلد كله. [email protected]