كشفت الأزمة الأخيرة للنقاب في مصر، عن أزمة أكبر، تتعلق بوعي قطاع ليس بالقليل من "الدعاة" الذين يتصدرون المشهد الدعوي الإسلامي، ب"الجغرافيا الإسلامية" الجديدة، إذا جاز التعبير. فالإسلام لم يعد اليوم ظاهرة شرقية، بل ولأول مرة بات جزءاً من أوروبا، وموضوعاً لجدل كبير بشأن إمكانية قبوله "شريكاً حضارياً" ورافداً من روافد هويتها الثقافية.. المؤسسة في محصلتها النهائية لهويتها السياسية. مشكلة الدعاة الحاليين.. هي عدم اكتراثهم لهذه الخريطة الجديدة للإسلام في العالم، أوعلى أقل تقدير لا يدركون أن "الأممية الإسلامية" التي غابت منذ سقوط دولة الخلافة عام 1923 لم تعد اليوم عند الحدود السياسية للعالم الإسلامي "القديم"، بل انتشرت على أطراف العالم "الحديث" كله، وتتأثر نخبه السياسية وجالياته الإسلامية ب"الاضطرابات الفقهية" في الشرق سلباً وإيجاباً، بعد أن بات الإسلام مصدراً للقلق الثقافي الحقيقي، للعالم الذي ظلت المسيحية- وعلى مدى عدة قرون- المصدر الوحيد الذي يستقي منها هويته الحضارية. وفي هذا السياق، فإن الإسلام في نسخته الغربية يمر باختبار حضاري بالغ الصعوبة، والاستسلام لحضوره الرمزي (الحجاب، النقاب، المآذن) لن يمر بسهولة، والغرب يبحث عن مسوّغات تسمح له بالتصدي لما يسمّونه "أسلمة أوروبا" بدون الدخول في أزمة أخلاقية، تتعلق بالحريات وحياد "الدولة العلمانية"، إزاء التعدد الثقافي والديني، والذي ما انفك الغرب، يعتبره أحد أهم إبداعاته، على صعيد الحداثة السياسية. واللافت أن الدعاة العرب، أحياناً وفي ظل غياب الوعي الذي أشرت إليه فيما تقدم يقدمون هذا "المسوّغ" للغرب، في التصدي للوجود الإسلامي داخل حدوده السياسية، حين تصدر فتاوى أو آراء لظاهرة "محلية".. و تتماس في الوقت ذاته مع الملفات التي تؤرق أوروبا، وتبحث لها عن حل يغنيها عن تحمّل تكلفته الأخلاقية، مثل ملف التعبير الرمزي للإسلام، وعلى رأسه مسألتا الحجاب والنقاب. ولعلنا تابعنا ردود الفعل، في عدد من الدول الغربية، على معالجة المؤسسة الدينية الرسمية في مصر، لنقاب الطالبات في المدارس والجامعات؛ إذ لم تعد الأزمة "محلية مصرية"، ولكنها باتت بتداعياتها وجدلها عابرة للحدود، وتلقّفتها عواصم غربية، لتتخذ منها مسوّغاً لتشديد القيود، على ارتداء الحجاب والنقاب معاً، وبلغت حد التقدم بمشاريع قوانين، تجيزاعتقال المنتقبات، استناداً إلى فتوى أكبر مؤسسة دينية في العالم للإسلام السني! وهذه هي المشكلة الكبيرة، التي تحتاج حقاً إلى مراجعة حقيقية، تنقل الدعاة إلى مركز الوعي بحدود "جغرافيا الإسلام" في صيغته العالمية الجديدة، واستحقاقاته من حيث الدقة والحساسية، في ضبط الفتوى والإدراك بأنها لن تكون على مستوى التأثير عند الحدود السياسية للدولة التي صدرت فيها الفتوى، وإنما ربما تكون سيفاً على رقاب الملايين من المسلمين الذين ينتشرون في قارات العالم الخمس. [email protected]