حزب البناء والتنمية المنبثق عن الجماعة الإسلامية هو أكثر الأحزاب الإسلامية الحالية انضباطًا وحرصًا على نجاح ثورة يناير، وهو أكثرها تجردًا في رحلة البحث عن "المغانم" من الثورة، فهو الحزب الوحيد الذي تنازل طواعية عن مقاعده في تأسيسية الدستور لصالح أحزاب ليبرالية من أجل حل مشكلة كانت عصية وتهدد بانهيارها، وهو الحزب الكبير الذي يقدم رؤية "المشاركة" وليس المغالبة في التحول السياسي الجديد، وأعرف جيدًا النبل الذي يحرك مواقفه السياسية تجاه قوى وأحزاب أخرى رغم المظالم التي تعرض لها، وكان الحزب أحد أهم الداعمين للرئيس محمد مرسي في انتخابات رئاسة الجمهورية خاصة في الجولة الثانية الحاسمة، كما وقف بقوة مع إنجاح مشروع الدستور الجديد، رغم أنه عانى بمرارة من سلوكيات جماعة الإخوان وحزبهم وسلوكهم السياسي الإقصائي خاصة في الصعيد، ومن هذا المنطلق والآمال التي يعقدها الوطن على "البناء والتنمية" فإني أعتب على الحزب انشغاله بردات الفعل على بعض المواقف أو المبادرات أو حتى الأخطاء التي يقع فيها هذا الحزب أو ذاك من أحزاب المعارضة المدنية والإسلامية على حد سواء، أعتب عليه سرعة نقده وهجومه على أعمال أحزاب معارضة بينما يهمس بنقده تجاه ممارسات "السلطة" رغم أنه هو نفسه أُضِير فعليًا من كثير من هذه الممارسات ويعرف أنها أخطاء فادحة ومحبطة للجميع وتزرع بذور الشك وانعدام الثقة بين الأحزاب والسلطة، كما أعتب عليه بصفة خاصة دعوته إلى مليونية يوم الجمعة المقبل ردًا على احتجاجات المعارضة، وهذه أول مرة يتظاهر حزب معارض ضد حزب معارض آخر، ففي الخبرة السياسية يكون الاحتجاج عادة ضد السلطة وأجهزتها وممارساتها وليس ضد أحزاب المعارضة مهما تكن ممارساتهم لا تعجبنا أو لا نرضى عنها، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن مصر ليست بحاجة الآن إلى استعراضات الشوارع من قبل التيار الإسلامي بجميع أحزابه وقواه، فالكل يعرف قدرة الإسلاميين على الحشد، مصر ليست بحاجة الآن إلى "العضلات" بقدر احتياجها إلى العقل السياسي والحكمة وعمق البصيرة في المشهد المعقد واستشراف سيناريوهات الخروج من الأزمة قبل أن تُفرض علينا سيناريوهات جاري إعدادها الآن وجميعها أخطر مما نتصور، مصر ليست بحاجة إلى إعلانات التحدي والمواجهة وإنما إلى أفكار خلاقة لحلحلة الأزمات واحتواء الخلاف ونزع فتيل الغضب المؤسس للفوضى المتسارعة والمتنامية في البلد، كثيرون يمكنهم اليوم الحشد والحضور في الشوارع والميادين ولكن نادرًا ما نجد من يملكون القدرة على المبادرات المسؤولة والذكية لإنقاذ الوطن، لا قيمة ولا معنى لاستعراض العضلات إذا كانت المحصلة هي تعقيد الأزمة أكثر، لا قيمة لانتزاع نصر معنوي في الشارع إذا كانت النتيجة هي مزيد من خسارة الوطن وتمزقه، لا نريد أن نقع في المعادلة التي تحولت إلى نكتة للأطباء "العملية نجحت لكن المريض مات"، الأزمة الحالية ليست فقط أخطاء قوى معارضة أو تحرشهم أو حتى انتهازيتهم، وإنما هي أيضًَا أخطاء سلطة وممارساتها وتحجرها وهيمنتها وإقصائها للجميع وسوء إدارتها الفادح للمرحلة الخطرة والقلقة من عمر الوطن وعنادها الذي يهدد بإفشال كل شيء ورفضها المتكرر والمتعالي للاعتراف بأخطائها والعمل على تصحيحها، وأنتم قريبون منهم وتعرفون تفاصيل هذه الممارسات ربما أكثر من غيركم، لم يكن المسارعة إلى نقد مبادرة حزب النور والهجوم عليها هو أفضل المواقف، بل كان الأوفق أن تطلبوا حوارًا عاجلًا مع الحزب وتشاورًا واطلاعًا مباشرًا على خلفية مبادرته والبحث عن تصحيحها إن استوجبت التصحيح أو تطويرها أو تفعيل بعض جوانبها إن كانت إيجابية، فالبلد في حاجة حقيقية للمبادرات وإن أخطأت جزئيًا، والمبدأ الإسلامي المبهر الذي يكافئ المجتهد حتى في حال خطئه هو أبرز إشارة على أهمية وأولوية "المبادرة" والأفكار والأعمال التي تفتح آفاقًا للعمل المثمر، أما أن نتوقف عند نقد هذا والتثريب على ذلك فسوف يطول بنا المقام وتتعدد التثريبات لأننا في مرحلة ملتبسة ومعقدة، لم يعد من الصحيح والإيجابي بأي معنى استمرار الاصطفاف السياسي والتخندق ضد المعارضة لأن هذا يصب في صالح ما تخشون منه، وهم فلول النظام القديم، كما أن هذا التخندق واستمراره يمزق الوطن أكثر ولا يحل أي مشكلة ويعرض المشروع الديمقراطي والثوري كله للخطر، الوطن بحاجة إلى استيعاب كل قواه في تلك اللحظة، وفي حاجة إلى جراحة دقيقة وحساسة جدًا لإنقاذه من التمزق والدمار، وأي سلوك عصبي أو حاد أو انفعالي الآن ضرره أكثر بكثير من نفعه إن كان له نفع أصلًا، وليس من صالح أي مخلص للوطن الآن تعميق مشاعر الكراهية بين التيارات المختلفة وتحويلها إلى مرارات يصعب علاجها، فالفتن الهائلة تبدأ ضغائن في النفوس تتفجر بعدها عنفًا ودماءً وانفلاتًا وميليشيات وخرابًا للأوطان، وهنا لن يكون ثمة غالب ولا مغلوب، والكل خاسر، والخاسر الأكبر هو الوطن نفسه. [email protected]