شرخ عميق يفصل الآن الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم عن أحزاب المعارضة، ماذا بعد؟ المؤكد أن لا سبيل للرجوع بالحال إلى ما كان عليه قبل طرح الرئيس مبارك مبادرته بشأن الإصلاح، ومن المؤكد أيضاً استحالة السير قدماً إلى الأمام وكأن اتفاقا بين الجانبين قد أبرم، والسؤال هو: هل من الممكن “عقلنة” الموقف، والاستفادة من التجارب الماضية للحيلولة دون وقوع الأسوأ؟ ينبغي بالطبع تحاشي التفاؤل المفرط، والاعتقاد بأن تحولا أساسيا قد أنجز بالفعل، غير أنه ينبغي أيضا تأكيد أننا لسنا بصدد نهاية المطاف، إذ أسرع جمال مبارك، ليعلن أن مجموعة إصلاحات ستطرح على مجلس الشعب في دورته الحالية. طبعاً هناك إمكانية أن تسلم الأطراف جميعا بالفشل، وتعترف بأنها تتحمل كلها قسطا من المسؤولية فيما حدث، فتستأنف المباحثات، ولكن الأهم في النهاية أن تنطلق الأطراف من أن وضعا أكثر إيجابية من الممكن التوصل إليه، فماذا يمكن عمله لتفعيل الإيجابيات؟ إن رد الفعل الأبعد نظرا هو أن تدرك الأطراف جميعا أن مصلحتها تقضي بعدم إطالة مدة انقطاع الصلة. تقود المعارضة كتلة من أحزاب ثلاثة: التجمع والوفد والحزب الناصري، لكل منها أيديولوجية متميزة، ووجود تاريخي، وأصالة، ورغم توافق أحزاب المعارضة الثلاثة ومعها جماعة الإخوان المحظورة على مقاطعة استفتاء يوم 25 مايو/ ايار، فإن التقارب بينها مازال بعيد المنال، إن التجمع والوفد يتبنيان موقفا متشددا في التعامل والتنسيق مع الإخوان، بينما الحزب الناصري لا يرفض التعامل معهم. والجدير بالملاحظة أن التنسيق بين الأحزاب الثلاثة لا يشكل جبهة ضد بقية الأحزاب، بل على العكس يسعى كي يصبح منبر جذب، لا منبر طرد، للتشكيلات السياسية الأخرى، إنه يريد أن يؤكد معنى أن الخلاف الأيديولوجي لا يستبعد التعامل والتعاطي، بل على العكس، يدعو إلى تنظيمه وتطويره، إذ يجمع التجمع والحزب الناصري موقف أقرب إلى اليسار، بينما الوفد أقرب إلى يمين الوسط والليبرالية، والليبرالية بوجه عام في حالة انتعاش، بينما اليسار وبالذات منذ انهيار الاتحاد السوفييتي قد تعرض لانتكاسة كبرى، ويستخلص مما سبق أن زوال التناقضات بين الأطراف الثلاثة ليس مطروحاً. ومع ذلك، يراهن الحزب الحاكم على استحالة أن تظل كتلة أحزاب المعارضة الثلاثة متماسكة، وفي حالة تضامن، وأن أفضل سبل تفكيكها هو عدم الاكتراث كثيرا بوحدتها الراهنة. أما الإخوان، فلقد رشحوا في بداية الأمر الرئيس مبارك لرئاسة جديدة، انطلقوا من موقع مبايعة مبارك مقابل أن تعترف السلطة بجماعتهم في مواجهة الأطراف التي تسعى إلى تداول السلطة وسقوط النظام، ثم غلبوا تضامنهم مع بقية المعارضة في تكتيك التصويت لمبارك، ذلك بأن الآمال ضعيفة في أن تستجيب السلطة لمحاولاتهم الانفتاح عليها، وهكذا انحاز الإخوان للكتلة الثلاثية. وأما القضاء، فلقد أعلنوا من خلال ناديهم تضامنهم مع بقية المعارضة، ومقاطعتهم الاستفتاء 25 مايو، وهكذا برز تجمع معارض يسعى إلى الظهور بمظهر تمثيل إجماع الأمة. وبينما جرت هذه الأحداث التاريخية على أرض مصر، جرت مباحثات لا تقل عنها خطورة في واشنطن، من قبل الرئيس بوش، ونائبه تشيني، ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، مع رئيس وزراء مصر أحمد نظيف. وقد تناقلت الصحف المصرية أن بوش عبّر عن تقديره لإصلاحات مصر السياسية والاقتصادية، وأنه يناشدها المضي على طريق الإصلاح، ومؤكداً أن الإصلاح لا يتصور تحقيقه عندما تصرّ قطاعات واسعة من الشعب المصري على مقاطعة الانتخابات، ومن هنا، ينبغي تفسير مناشدة بوش على أنها دعوة لتوفير ظروف لا تجعل المنافسة على الرئاسة عملية تعجيزية، وتتيح الفرصة لمعركة انتخابية حقيقية. وقد أدلى بوش بتصريح قال فيه إنه يرحب بفكرة أن يكون هناك مراقبون دوليون يتابعون في مصر الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وفجأة، وجد نفسه في تعارض صريح مع تصريحات مسؤولين مصريين بأن مصر تعتبر المراقبة الدولية لانتخاباتها تدخلا في شؤونها الداخلية، ومساسا بسيادتها، وكان لابد من إيجاد مخرج من هذا “المطب”. ومن الأفكار التي طرحت في هذا الصدد أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر قد قبل أن يراقب الانتخابات الفلسطينية، فمن الممكن أن “يوجد” على نحو ما في مصر وقت إجراء انتخاباتها هي، وبصورة تمكنه من القول إنه قد استطاع أن يتابع الانتخابات عموما في المنطقة، وهكذا يتم تحاشي التعارض الصريح مع مطلب مصر، ذلك مع الاستفادة من شخصية كارتر الذي يملك لا شك مصداقية على نطاق واسع، ليس هذا بالضرورة “المخرج” الذي ستأخذ به الأطراف، ولكنه يشير إلى نوعية المخارج الواردة. ثمة دروس تستخلص من تطور أساليب الكفاح، وبالذات نتيجة انعزال الدوائر المسيّسة عن الجماهير العريضة طويلا، ومحاولة اكتشاف سبل جديدة لجذبها، تلائم مستجدات العصر، لقد تطورت المظاهرات، فتلك ذات الطابع الوطني تدور بشكل أساسي حول القضية الفلسطينية، ثم مظاهرات مناهضة الحرب على العراق، إلى المناداة بالتغيير وتعديل الدستور، والتغيير الرئيسي في صورة المعارضة المصرية في الوقت الراهن هو احتلال قضايا الديمقراطية والقضايا الاجتماعية مركزا بارزا دون أن يقلل ذلك من أهمية قضية الامبريالية والتضامن مع العراق والانتفاضة الفلسطينية. إننا نخاطب منطق الإحباط والإحساس بالضياع، إننا لا نخاطب العقلانية، وإنما نعبر عن مشاعر مكبوتة، جريحة، وهذا مؤشر خطير. إننا أقرب إلى الصرخة والاستغاثة، ومن أهم ما يميز حركة المعارضة المصرية الجديدة هو قدرتها على ابتداع شعارات جديدة، لها القدرة على تكثيف مطالبها في عبارات موجزة، ناطقة، إنها اللغة التي يفهمها الشارع.