(1) قامت الدنيا ولم تقعد لأن رئيس الوزراء المصري الدكتور أحمد نظيف اعلن علي الملأ الاسبوع الماضي ان الشعب المصري لا يصلح للديمقراطية ولا تصلح له. وطالب البعض باقالة نظيف ومساءلته لأنه اهان الشعب المصري بتصريحاته. ولكن اذا كان الدكتور نظيف مخطئا، وكان الشعب المصري جاهزا للديمقراطية، فما الذي يحول بينه وبين حكم نفسه وتقرير مصيره؟ ولماذا يقبل المصريون الوصاية الخارجية والداخلية ويتركون امرهم لغيرهم اذا لم يكونوا فعلا من القصّر كما صرح الدكتور الذي يجب ان يكافأ علي صدقه وشجاعته لا ان يهاجم وينتقد؟ (2) في كل من جورجيا وقرغيزيا اللتين لا تفخر أي منهما بأن لها تاريخا عريقا يعود لسبعة آلاف عام قامت احتجاجات وقتية علي تزوير الانتخابات وارادة الشعب. وخلال ساعات من اعلان النتيجة المزورة، كانت الجماهير في الشارع، ولم تتوقف احتجاجاتها حتي اقتحمت برلمانات ومجالس وزراء التزوير واجبرت المزورين علي الفرار. وفي اوكرانيا تحركت الجماهير ايضا بمجرد اعلان النتيجة المزورة ورابطت تحت الثلوج في الميادين لأيام، ولم تبارح متاريسها حتي تراجع المزورون ورضخوا لارادة الشعب. (3) في مصر المحروسة كان الداني والقاصي يعلم سلفا ان عملية تعديل الدستور الاخيرة هي في وجوهرها عملية تدليس وتزوير، وان الاستفتاء عليها هو بغض النظر عن نتيجته، عملية خداع مكشوفة، ولكن غالبية الجماهير المصرية لم تحرك ساكنا، بل مضت لحال سبيلها كأن الامر لا يعنيها. (4) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر طفق السيد جمال الدين الافغاني يخطب في شباب الهند مذكرا اياهم بقدرتهم علي تحدي الاحتلال البريطاني. وكان يقول لهم ان ثلاثمئة مليون نفس هي تعداد سكان الهند وقتها، لو ان كل واحد منهم بصق باتجاه قوات الاحتلال لأغرقوها. وانهم لو كانوا ذبابا لأزعج طنينهم المحتلين واجبرهم علي الفرار. ولكن جماهير الهند لم تكن مستعدة للطنين ولا ما هو اقل منه. بل ان الجيش الذي استخدمته بريطانيا لاخضاع الهند كان اكثره من الهنود. وفي الحربين العالميتين في القرن الماضي مات ملايين الجنود الهنود دفاعا عن الامبراطورية البريطانية وهم يقاتلون اعداء لا يعرفونهم في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ولم يفكر احد من هؤلاء في مقاتلة من احتل ارضه. (5) حين ادرك الهنود ان من حقهم وواجبهم انتزاع حق حكم انفسهم بأنفسهم، لم يحتاجوا لاطلاق طلقة واحدة لاجبار الانكليز علي المغادرة. وقد كان المهاتما غاندي هو الذي ابتكر اكثر اشكال العمل السياسي الاحتجاجي تحضرا، وهو الاحتجاج السياسي الجماهيري السلمي، وقاده بنجاح الي ان جلا البريطانيون ونالت الهند حريتها. (6) العرب لا يحسنون الاحتجاج السياسي السلمي، ويميلون اكثر الي العمل المسلح، وهو اسلوب غير فعال، وفيه نوع من الاتكالية والهروب، كما انه لا يفضي الي الحرية بالضرورة. العمل المسلح لا يمكن الانخراط فيه الا لأقلية، بينما تظل الغالبية متفرجة، واذا تحقق انتصار فان المسلحين هم الذين يتولون السلطة كما حدث ويحدث في الجزائر وفلسطين وتظل البقية في موقع المتفرج. (7) الانتفاضات الجماهيرية هي بالمقابل علامة نضج الشعوب وجاهزيتها للديمقراطية. هذه الانتفاضات (كما شهدناها في السودان وفلسطين ولبنان) تتولي قيادتها عناصر ديمقراطية، كما تفرز بدورها قيادات ديمقراطية، ولا تحقق نجاحا الا بمشاركة فاعلة من قطاعات جماهيرية واسعة تؤكد هويتها الديمقراطية وتضمن استمراريتها وعدم الانفراد بأمرها من قبل قلة معزولة. (8) حين تكون مصر وبقية الدول العربية جاهزة للديمقراطية لن تحتاج الي جورج بوش او احمد نظيف او كوفي عنان ليخبرنا بذلك، ولن يكون الامر موضع جدال في الصحف وشاشات التلفزة. الجماهير نفسها ستكون اول من يعلم. الحكام بالطبع سيكونون مثل شاوشيسكو والنميري وهونيكر وماركوس وأضرابهم، اخر من يعلم، وذلك حين تجتاح الجماهير الغاضبة معاقل فسادهم وتآمرهم علي الشعوب وتلقي بهم الي الشارع ومزبلة التاريخ.