اذا لم تكن أمريكا قد فتحت رسميا جبهة تغيير النظام في دمشق فإنها على وشك أن تفعل. تغيير النظام في دمشق لن يحاكي في أسلوبه تغيير النظام في بغداد. فالحرب العسكرية ليست ضرورية. تكفي الحرب السياسية والحرب الاعلامية. غير ان الغرض المرتجى من التغيير في كلا البلدين واحد أحد: تصفية حال المقاومة ل “اسرائيل” والممانعة لأمريكا. أما الوسيلة أو الحجة أو الذريعة فهي يا للمفارقة واحدة دائما: الانتصار للحرية في وجه القمع والطغيان. هل أصبحت الحرية عميلة لأمريكا؟ نعم، انها لكذلك في مفهوم العقلية الأمنية التي تحكم معظم بلدان النظام العربي الواحد. فالحرية باتت نقيضاً للأمن، والأمن بات مرادفا للاستقرار المرادف بدوره للسكون وصمت القبور. يفهم ضابط المخابرات الوضع السياسي الراهن هكذا: أمريكا و”اسرائيل” تريدان تغيير النظام لأنه لا يناسبهما. ايّ نقد للنظام يصبّ اذاً في مصلحتهما. يجب وقف النقد، ناهيك عن المعارضة، للحؤول دون إضعاف النظام. فالإصرار على النقد والمعارضة يعني الاصرار على اضعاف النظام. اذا لم يكن الناقدون والمعارضون متواطئين مع أمريكا مباشرة فانهم يكونون متواطئين معها مداورة. على هذا الأساس، لا مجال للتهاون مع المعارضين لئلا تصب جهودهم من حيث يدرون أو لا يدرون في خدمة الأمريكيين! منطق العقلية الأمنية هذا وأداؤها يفسران إلى حد بعيد ما يجري حاليا في مصر بصورة عامة وفي سوريا بصورة خاصة. وليس من قبيل المصادفة أن يكون “الاخوان المسلمون” الذريعة والضحية في كلا الحالين. فالاسلاميون عموما والاخوان المسلمون خصوصا متهمون بأنهم من دعاة ورعاة “الإرهابيين” الذين يقاتلون الصهاينة في فلسطين وجيش الاحتلال في العراق. صحيح انهم ليسوا وحدهم في ميدان الممانعة والمقاومة بل هناك قبلهم ومعهم وبعدهم قوى قومية ويسارية لا تقل عنهم عداء للمحتلين ولا ضراوة في المقاومة والكفاح، لكن هذه القوى ضُربت وقمعت فاضطرت إلى النزول تحت الأرض، فيما بقي الأخوان المسلمون فوقها بعدما طلّقوا العنف في مصر بالثلاثة واعتمدوا قواعد الصراع السلمي الديمقراطي، وهادنوا نظام الحكم في سوريا بل شاركوه بعض مواقف التصدي لسياسات أمريكا المعادية للعرب والمسلمين. مع تزايد أخطاء النظام وخطاياه في كل من مصر وسوريا وتنامي المعارضة، لجأت العقلية الأمنية السائدة في كلا النظامين إلى أسلوب قديم جديد في قمع الأخوان المسلمين هو اتهامهم بأنهم وراء التفجيرات الأمنية في القاهرة ووراء الدعم الذي يتلقاه الإسلاميون السلفيون عبر الحدود السورية لمقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق. كل ذلك من أجل التودد لأمريكا وكفّ شرها عن النظام في كلا البلدين، بل إشعارها بأن المنافع المتأتية عن بقائه، حاضراً ومستقبلاً، تفوق الفوائد المرتقبة من تغييره. من سوء حظ أركان النظامين المصري والسوري ان جورج دبليو بوش والإدارة الأمريكية في ظل سيطرة “المحافظين الجدد” ما عادوا مهتمين بالمحافظة على النظام العربي بوضعيته الراهنة المهترئة. كذلك حال شارون وأقرانه من الزعماء الصهاينة. فبوش ومساعدوه ينادون بنظرية “الفوضى البناءة” التي تحبّذ مرأى الأنظمة المعادية، الضعيفة والمجوّفة، وقد تهاوت ليقيموا، وفق نظرية “بناء الأمم”، أنظمة بديلة منها تخدم مصالح أمريكا وتناسب أذواق قادتها. أما شارون فقد بلغ به شعور الإستهتار بالعرب والتعالي عليهم حدّ القول في خطبة له أمام مؤتمر اللجنة الأمريكية “الإسرائيلية” للشؤون العامة “ايباك” المنعقد في واشنطن مؤخراً انه لا يأمن الجانب العربي ويرى “ان أي اتفاق مع الزعماء العرب لا يساوي الورق المكتوب عليه”! من المضحك المبكي في آن أن العقلية الأمنية الحاكمة في النظام العربي تقوم بألاعيب، في سياق نهج القمع المنظم الذي تعتمده، غالبا ما تؤدي إلى فضحها أو افتضاحها. ففي مصر، مثلاً، يعرف القاصي والداني ان الأحزاب الناصرية والديمقراطية واليسارية وتيار “كفاية” هي في أساس الدعوة إلى تعديل الدستور لتحرير عملية الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية من القيود المفروضة من النظام الحاكم، كما هي في أساس الدعوة إلى مقاطعة الإستفتاء. والحال ان الأجهزة الأمنية صبّت على “الأخوان المسلمين” نار غضبها تفريقا للتظاهرات وتنكيلا بالمتظاهرين واعتقالا لقيادات الجماعة مع ان الاخوان انضموا لاحقا لحملة المطالبة بالتعديل والمقاطعة، ولا تنطوي أدبياتهم وشعاراتهم لغة معادية لأهل النظام بالمقارنة مع سائر الأحزاب والهيئات المعارضة. في سوريا تتجلى الفضيحة بشكل أصرح وأخرق. فقد اعتقلت سلطات الأمن جميع أعضاء مجلس إدارة “منتدى جمال الاتاسي” للحوار الوطني، وهو من أبرز التجمعات الثقافية التي تضم نشطاء من دعاة الديمقراطية وإطلاق الحريات العامة. والفضيحة ان سلطات الأمن بررت عملية الاعتقال بأن أحد الناشطين (علي العبد الله) قام بتلاوة بيان مكتوب للمراقب العام للاخوان المسلمين علي البيانوني في المنتدى، في حين ان الاعتقالات استهدفت في معظمها أعضاء مجلس إدارة المنتدى الذين ينتمون جميعا إلى أحزاب وتيارات يسارية وديمقراطية معروفة! هل كان لهذا التدبير القمعي صدى ايجابي في أمريكا؟ بالعكس، فقد صرح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ريتشارد باوتشر: “إننا قلقون للغاية إزاء المعلومات التي أشارت إلى هذه التوقيفات”! هل يمكن أن يكون قادة الأجهزة الأمنية التي خططت ونفذت تلك الإعتقالات على هذا القدْر من الغباء؟ الجواب: نعم، ثمة مقدار كبير من الغباء أياً كان الدافع إلى الاعتقالات. بعض المراقبين يعزو الاعتقالات إلى رغبة بعض قادة الأجهزة الأمنية في تفشيل المؤتمر القطري لحزب البعث الحاكم قبل ان تبدأ اجتماعاته في نهاية الأسبوع الأول من شهر يونيو/ حزيران المقبل وذلك بقصد إجهاض البرنامج الاصلاحي الذي يعتزم الرئيس بشار الأسد تقديمه إلى المؤتمر ولاقراره. بعضهم الآخر يعتقد أن أنصار الرئيس دفعوا بعض قادة الأجهزة إلى إرتكاب هذه الخطيئة لتسهيل أمر إقصائهم وإمرار البرنامج الإصلاحي على أنقاضهم السياسية. مهما يكن الأمر، فإن أحداً من المراقبين والعارفين والحريصين على بقاء سوريا حرة وبمأمن من سياسة الهيمنة الأمريكية، يشجبون العقلية الأمنية التي ما زالت تدير شؤونها السياسية وتتسبب باقتراف خطايا وفضائح مدويّة بعدما تسببت للبنان كما لسوريا بكوارث مدمرة، ما زال البلدان يعانيان آثارها المحزنة والمكلفة والمرهقة.