منذ عامين وتعيش مصر حالة استثنائية غير عادية فى أعمار الشعوب، تعيش حالة حرمت منها عقود طويلة، حالة رفض وحالة استنفار وحالة رغبة عميقة فى استنشاق عبير الحرية، وهذا محمود ومطلوب، ولكم أشكر ربى أنى رأيت ذلك قبل حلول الأجل، رأيت شباب أمتى يقررون كيف تكون مصر- كل من وجهة نظره، ووفقا لرؤاه للمستقبل- رأيت شباب أمتى يخرجون عن صمتهم الدفين، الذى كان يفرضه عليهم حالة الرعب المستمر من البطش لمجرد أنهم يريدون لمصر واقعًا آخر، واقع يجعل لهم الحياة الكريمة التى يسعون إليها. حدث ما حدث، وتحقق ما تحقق، من الأهداف التى طالبت بها أصوات بنى وطنى، وبدأنا نخطوا لخطوات البناء، بناء مؤسسات الدولة؛ حتى يمكن أن تبنى مصر العظيمة التى تراها أعين شباب أمتى، فما لبثنا أن تحولت النداءات لتطبيق الرؤى المنفردة لكبار راحوا يتسابقون لحشد هؤلاء الشباب تحت ألويتهم، ولكل حق فى أن يرينا نظرته لمستقبل مصر، فلا حجر على أحد، ولا تسفيه لرؤية طالما تنطلق من إيمان حقيقى بصالح الوطن وصالح أبنائه؛ حتى ممن لا يهتمون سوى بلقمة العيش والسعى وراءها. ولكن مع السعى الحثيث وراء تحقيق الرؤية وبناء الصورة، بدأ البعض يخطئ فى الآليات، رغم نداء الجميع بالديمقراطية، واللجوء لرأى الشعب والتى تنادى أبجدياته باحترام رأى المجموع، واتخاذ الآليات نفسها للتغيير، وإقناع صاحب الكلمة بالرؤية التى يتبناها، رأينا للأسف آليات جديدة تهمش من حقيقة القوة الحقيقية لصوت هذا الشعب، وتتهم هذا الصوت بالتخلف والأمية وعدم الوعى والنضج، وهذا ادعاء لا نستطيع التسليم به عقلًا، وإن سلمنا به فأبجديات الديمقراطية تدعونا لإصلاح هذا الخلل بآليات الديمقراطية بالتنوير والتوعية، لا بمحاولة الانقلاب على هذا الصوت واغتصاب حقه فى أن يرسم هو وحده خطى الطرق وإن كانت خطأ من وجهة نظر البعض. للأسف بدأ استغلال قوى أخرى لفرض الصوت الفردى، ومحاولة التغلب بها على الإرادة الجمعية للشعب، الحشد للضغط – وليت الأمر وقف عند هذا الحد – بل والدعوة لعدم السلمية وحمل السلاح من أجل فرض واقع جديد على أصحاب الصوت الجمعى من البسطاء الانصياع له طوعًا أو كرهًا؛ حتى تتحقق لهذه الفئة ما تريد، حتى لو خرج مرادها عن إرادة الشعب الحر، الذى ثرنا لنسلمه حريته، الحديث هنا ليس عن فئة بعينها أو حزب بعينه، أو جماعة بعينها؛ حتى لا يفهم كلامنا بتحيز، وما أبرئ نفسى، ولكن الحديث هنا جمعى يطال الجميع؛ حتى الساكتون عن هذا الوضع. هذا الوضع الذى تحولت فيه الساحة لصراع واستعراض قوة، وفى ظل نجاحات حققتها خطوات بناء الديمقراطية، نعم نجاحات رغم اعتراض البعض على نتائجها؛ لأنها جاءت بالصوت الجمعى، وعن طريق آلية ديمقراطية، هذا الوضع الصراعى لن يسمح بمد الخطى نحو البناء الفعال لتنمية بلادنا ونهضتها؛ فنجاح فصيل أو جماعة أو حزب دون تجمع أيدى الفصائل الأخرى وتماسكها وفتح قنوات النجاح للتقدم للفصيل الناجح، والمعارضة البناءة التى تدل على الطريق الصحيح لنجاح مصر، والمساعدة بتقديم الحلول للمشكلات دون استغلالها لهدم الفصيل الناحج لن يسهم فى تقدم أو بناء، ولن يحدث التغيير المنشود ليعيش هذا الشعب عيشة الحرية والكرامة التى يتشدق الجميع بالمطالبة بها. أقولها مؤمنًا، إما إيمانًا بآليات الديمقراطية التى ننادى بها، وإما كفرًا تامًا بها، وعلينا أن نسعى للبديل، وقطعًا البديل لن يرضى الجميع، علينا أن نتعلم كيف نحدث التغيير بآلياتها، أو نرضخ لفكرة أخرى تعيد لهذا البلد استقراره، ولو سلبنا ذلك حريتنا التى نسعى إليها؛ فالغاية المنشودة يراها البعض الآن فى ظل رؤية أخرى أساسها الحزم والسيطرة على حالة الغليان والثورة المستمرة بسبب ظاهر أو خفى غير معلن، لن تحقق مطامع الشعب المطحون الذى ذاق ويلات الحرمان والتهميش عقود طويلة، جعل البعض من البسطاء يقول: ما كنا عايشين ولا يوم من أيامك يا جلادنا، هذه الرؤية التى يجب أن يتمثلها الآن الثائرون، وأن يعوا أن نتائجها لابد وأنها ستكون وبالًا على الجميع، وأول ما تطال ستطال رؤوسهم، والكلام هنا أيضًا للجميع، لا أستثنى أحدًا. لا مجال بيينا الآن إلا لأصحاب الرؤى الحقيقية للبناء، لا مجال إلا لمن يقدم يد المساعدة والعون لمن قدر الله له بتحمل المسؤولية، لا مجال بيننا إلا لمن يريد العمل ويسعى للتطوير والتحديث وتقديم الفرصة كاملة لصاحب الحق فيها، وبكلمتنا التى يستهين بها البعض، نستطيع أن نغير ونقدم الشكر على ما بذل من جهد، سواء حالف هذا الجهد التوفيق أو أخطأه، أو نحتفظ بنجاخ قدم ونسعى للمزيد منه بآلية واحدة هى آلية الصوت الجمعى، صوت الشعب الذى يستطيع وحده أن يقرر هل ما قدم كان لصالحه، أم أنه بحاجة للتغير ليقدم على الساحة مشهدًا آخر من مشاهد العمل، الذى يرى هو وحده ملاءمته للمرحلة الآتية. أما أن تتعالى الأصوات ويتم الحشود لأهداف خاصة وشخصية، بعيدًا عن رغبة هذا الشعب وإرادته فثقوا تمامًا أن هذا لن يقدم إلا فوضى بعد فوضى، وتأخر بعد تأخر، ولن يذوق ويلاته إلا أفراد الشعب المطحون، والذى لن يصمت طويلًا، وسيكون صوته مخرسًا لكل الأصوات، لا أتصور آلية ذلك، ولكنى أؤمن بتأثيره الطاغى إن حدث. د. خلف الديب عثمان – تربية الأزهر بالقاهرة -