يثور جدل شديد في مصر بشكل خاص حول الرقابة على انتخابات الرئاسة المصرية الأولى في الخريف المقبل، وبخاصة بعدما طلبت الولاياتالمتحدة من القاهرة أن تقبل بهذه الرقابة، فانقسم الرأي العام المصري حول هذا الموضوع. فمنهم من يرى أن الرقابة تتضمن مساساً بالسيادة المصرية، وتقوم على افتراض أن المصريين غير قادرين على إجراء انتخابات نزيهة، كما أن هذه الرقابة لم تطلبها مصر وإنما تفرض عليها، ما يعنى أن رفضها يستجيب لنوازع وطنية واضحة. وهذا ما دفع معظم المصريين سواء على مستوى النخب السياسية أو الحزبية أو النقابية إلى رفض ما سموه التدخل الأجنبي في شؤون مصر الداخلية. أما الفريق الآخر، ويتشكل أساساً من عناصر «كِفَاية» وبعض المثقفين وبعض تيارات الإخوان المسلمين، فيرى ضرورة مراقبة الانتخابات الرئاسية من الخارج، ويستند في ذلك إلى عدد من الاعتبارات، أهمها أنه إذا كانت الرقابة تمثل تدخلاً في الشؤون الداخلية فذلك ليس غريباً على الحكومة المصرية، ويرون أن الولاياتالمتحدة لا تترك أي مساحة لاستقلال القرار المصري، كما يستندون إلى ما سجلته منظمات حقوق الإنسان، ومن بينها المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان من انتهاكات فاضحة، خصوصاً أن سجل الحكومة في تزوير الانتخابات كان أمراً مشهوداً وصل إلى حد أن المحكمة الدستورية العليا أبطلت إحدى دورات مجلس الشعب بالكامل. ويضيف هؤلاء إلى ذلك ما يعتبرونه تزويراً جديداً للاستفتاء على تعديل المادة 76، والسلوك الهمجي الذي صدر من أعضاء الحزب الوطني، وتورط أفراد الشرطة في الاعتداء المنظم والمنهجي، وإرهاب العناصر المعارضة لتعديل المادة على هذا النحو، ما دفع واشنطن نفسها إلى مطالبة الحكومة المصرية بالتحقيق في هذا السلوك، وتقديم المسؤولين إلى المحاكمة. وفي المقابل، تنفي الحكومة المصرية ما سبق. ويرى معارضوها في ذلك إصراراً على تزييف إرادة الناخبين، والتنكيل بهم وفرض أمر واقع أدى إلى تدهور أوضاع مصر ومكانتها في الداخل والخارج. ويستخلصون من ذلك أنه لا يمكن تحقيق نزاهة الانتخابات إلا برقابة أجنبية مفروضة تضع حداً لتستر السلطات المصرية على تقليد مصري قديم في التزييف وإخفاء الحقائق. ونظراً الى أن الجدل سيتفاقم في قضية لام شاعرنا أحمد شوقي ذات يوم المصريين بسبب اللغو فيها بقوله: إلام الخلف بينكم إلام/ وهذي الضجة الكبرى علام؟. ما دامت النتائج محسومة مسبقاً حتى في ظل الرقابة الدولية، فإنه من المناسب أن نضع القضية، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية المعروفة، في سياقها وحجمها الطبيعيين. ففكرة الرقابة الدولية على الانتخابات بدأت في إطار الأممالمتحدة ضمن برنامجها لمساعدة الشعوب المستعمرة على الاستقلال، فاتجهت بعثة للرقابة على الانتخابات في جنوب أفريقيا عام 1992 عقب تخلي النظام العنصري عن وجوده فيها، وهي الانتخابات التي كان يخشى تزويرها من جانب النظام العنصري، وأسفرت عن نجاح مانديلا وبداية النظام الديموقراطي متعدد الثقافات والأعراق. ثم قامت بعثة أخرى لرقابة الاستفتاء في ناميبيا لكي تختار طريقها بعيداً عن سيطرة جنوب أفريقيا، وهو تقليد اتبعته الأممالمتحدة في الواقع منذ بداية السبعينات على الأقل عندما نظمت استفتاء في البحرين اختار فيه شعب البحرين الاستقلال عام 1970، منهياً بذلك دعاوى إيران ومطالبتها بالجزيرة. من ناحية أخرى، أصبح لدى الولاياتالمتحدة خبرة طويلة بإعداد النظم الديموقراطية عندما قامت بحملة واسعة في أفريقيا طوال التسعينات من القرن الماضي بعد انتهاء الحرب الباردة، وتنفيذاً لإعلان الرئيس بوش الأب عام 1991 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لإقامة نظام دولي جديد يستند إلى الديموقراطية الوطنية والدولية والاستقرار والسلام. وأنشأت واشنطن معهد واشنطن للديموقراطية تخصص في صياغة قوانين الانتخابات، وتدريب الكوادر، وإرسال فرق بكل اللوازم لإنشاء النظم الديموقراطية لتحل محل نظم الحزب الواحد والنظم الانقلابية في أفريقيا، وتابعت هذه التجربة في بوروندي عامي 1992 و1993. فالرقابة الأميركية على الانتخابات كانت تهدف إلى حماية التجربة الديموقراطية من النظم الدكتاتورية الأفريقية بعد أن أرغمت واشنطن هذه النظم على قبول التجربة الديموقراطية، واشترطت هذا القبول حتى تستمر المعونة الأميركية لها. ثم دخل الاتحاد الأوروبي مع الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة في عمليات المراقبة التي تطلب أحياناً وتفرض في غالب الأحيان. واشترك الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة في رقابة الانتخابات الأميركية الرئاسية والألمانية الأخيرة، وكان الهدف من هذه الرقابة هو تثبيت التقليد الدولي لأن الإشراف على الانتخابات يشمل الدول الديموقراطية وغير الديموقراطية، والإشراف في كل الأحوال يؤدي وظيفة مهمة: فإن كانت الانتخابات نظيفة شهد لها بذلك، وإن كانت مزورة دانها وانتصر للديموقراطية فيها. وليس معنى ذلك أن أوروبا والولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة تمسك بميزان العدالة الديموقراطية في كل الأحوال، ذلك أن المجال لا يتسع لكي نورد الحالات الشاذة التي شهدت انتخابات نظيفة تحت إشراف دولي، ولكن النتائج أتت بقوة سياسية يريدها الشعب ولكن لا تريدها الولاياتالمتحدة، وكان أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في الجزائر عام 1992 عندما حصلت الجبهة الوطنية للإنقاذ على غالبية ساحقة من الأصوات، ولكن واشنطن شجعت انقلاب الجيش وإحباط هذه المحاولة الإسلامية. كذلك لا يجب أن نستخلص من ذلك كله أن أوروبا والولاياتالمتحدة يعملان في بيئة دولية مثالية، فالمعلوم أن النظم الانقلابية جميعاً خطط لها من جانب أوروبا أو إسرائيل أو أميركا أو تم السكوت عنها، ما دامت تخدم مصالح هذه الدول. ولا شك أيضاً في أن تزوير الانتخابات في مصر لم يكن يعني في شيء الولاياتالمتحدة، ما دامت العلاقات المصرية الأميركية تسير سيراً حسناً. عند هذا الحد يجب أن نشير إلى أن القوة الخارجية بدأت تشعر بالجسارة في مواجهة النظم الوطنية في العالم العربي، وتمد يدها إلى قوى المعارضة، كما يجب ألاّ نغفل عن البيئة الدولية الحالية التي تتعالى فيها صرخات الديموقراطية وحقوق الإنسان كلما كان ذلك مناسباً. في هذا المناخ المعقد يبدو لنا أن المطالبة أو القبول برقابة دولية على الانتخابات الرئاسية المصرية لا يعتبر بالضرورة تدخلاً في الشئون الداخلية المصرية، كما يجب ألاّ ينظر إلى الأمر بحساسية مفرطة، ولا يجوز أن يتم تبادل الاتهام بالتخوين والتكفير، فمن السهل أن يوصم المطالب برقابة دولية بأنه عميل للأجانب انطلاقاً من ثقافة سياسية عقيمة ترعرعت في مصر، أساسها أن النظام هو الوطن، وأن الحاكم هو الوطن، وأن الطعن في الحاكم أو نقد تصرفاته أو تقويمه هو نوع من الكفر السياسي إما بنعماء الحاكم، أو أنه خيانة لتراب الوطن الذي توحد معه الحاكم، فأصبح الفارق بين الحاكم والوطن غير ملحوظ، وهي مفاهيم لم تعد سائدة إلا في المجتمعات المتخلفة أو مجتمعات العصور الوسطى. أما الرافضون للرقابة الأجنبية أو الدولية على الانتخابات فلا يستطيعون الادعاء بأنهم أعلى وطنية ورغبة في الاستقلال من غيرهم، ولا بد من أن تكون أصواتهم المعارضة للرقابة الدولية على قدر السجل التاريخي لسلوك الحكومات المصرية المعيب في تزييف إرادة الناخبين. فكأن الرقابة في هذه الحالة هي عندهم تأكيد لهذا السجل، وإعلان عن ضرورة وضع حد له ولكن على يد المراقب الأجنبي. غير أننا يجب ألا نقيس الحال المصرية على الأحوال العربية الأخرى، كما يجب ألا نعتبر الرقابة الدولية على الانتخابات ضماناً لإنتاج الديموقراطية. يكفي أن نشير في ذلك إلى التجربة الجزائرية، وإلى الانتخابات الرئاسية فيها، لأن المشكلة الديموقراطية في العالم العربي ليست في نزاهة الانتخابات وحدها، وإنما تكمن في كل مراحل العملية السياسية، فماذا يصنع المراقب الأجنبي في مرشح قادر مالياً على إفساد ذمم الناخبين ورشوتهم إلا أن يشهد بإقبالهم في صناديق الانتخاب على اختياره، وأن تكون الرقابة الدولية في هذه الحالة هي خاتم الشرعية لهذه الانتخابات التي تنتج نظاماً ديموقراطياً مزيفاً، لا يكون فيه التزييف في الصناديق، وإنما في استغلال فقر الناخب وعوزه وعدم اكتراثه بشخصية المرشح، وتركيزه على ما يحصّله منه من منافع. فالقضية إذاً هي أعمق بكثير من مجرد الرقابة الدولية أو عدمها. فإذا كانت الحال المصرية تختلف اختلافاً واضحاً عن الأحوال العربية الأخرى فيجب - توضيحاً لذلك - أن نشير إلى الحالين اللبنانية والفلسطينية، ولكل خصوصيته في ما يتعلق بمسألة الرقابة الدولية. الحال اللبنانية، تم الإعداد لها إعداداً جيداً من جانب الولاياتالمتحدة وفرنسا، على أساس أن سورية لها سجل «أسود» مع واشنطن وإسرائيل في مساندة المقاومة العراقية والفلسطينية، والتمسك بالبقاء في لبنان، ومساعدة حزب الله الذي تجاسر على ردع الإسرائيليين وإرغامهم على الخروج بلا مقابل من الجنوب اللبناني. فكانت المطالبات المستمرة بفصم سورية عن لبنان، وتقليم أظافر سورية، واستباحة الساحة اللبنانية، ثم بدأ المخطط لتحقيق هذه الأهداف بالقرار 1559، وكانت أداته التنفيذية الفعالة هي اغتيال شخصية قومية مثل رفيق الحريري، فأحدث ذلك زلزالاً وجهت واشنطن كل آثاره نحو هذه الأهداف في سورية ولبنان، فكان التحقيق في مقتل الحريري إعلاناً عن إسقاط الأهلية القانونية عن الدولة اللبنانية التي اتهمت ضمناً بالتآمر مع سورية للتصدي لهذه الأهداف، أي بلغة أخرى في مقتل الحريري، وأصبح دم الحريري قضية دولية تهدد السلم والأمن الدوليين على رغم أنه أحدث طوابير شهداء السياسة اللبنانية منذ الأربعينات حتى الآن. ثم كان الإصرار على إجراء الانتخابات والرقابة عليها. ولذلك يشكر للحكومة اللبنانية ذكاءها في التعامل مع هذه الموجة العاتية، وفي ترحيبها بالرقابة الدولية على رغم ما تعنيه هذه الرقابة من انتقاص للسيادة الوطنية. وفهمت الحكومة القضية فهماً متحضراً على أساس أن الحكومة - وكما أشار وزير الداخلية اللبناني - مصرة على نزاهة الانتخابات، فتصبح الرقابة مهمة في الإعلان عن هذه النزاهة، وبذلك تمكنت الحكومة من احتواء هذا التحرش الدولي بلبنان، وامتصت موجات التحرش المتعاقبة، وبخاصة عندما قبلت بعثة تقصي الحقائق الدولية، ثم رحبت بلجنة التحقيق الدولية، وكلها سوابق لم يعرف لها التاريخ المعاصر مثيلاً. ومع ذلك أدركت الحكومة اللبنانية أن القضية أخطر بكثير من مجرد هذه الأحابيل والذرائع، وهي تدرك تماماً أن السقطة الكبرى هي موافقة المجلس النيابي على تعديل الدستور اللبناني لتمديد ولاية الرئيس اميل لحود في حين تتحفز الولاياتالمتحدة نحو المنطقة.