فى أواخر القرن التاسع عشر استقر فى المجال الاجتماعي ما يعرف بلقب (الأفندي) الذي كان يشير إلى فئة صاعدة تلقت تعليمًا مدنيًا وشغلت وظائف حكومية متوسطة وصغيرة.. وبعضهم عمل فى مهن حرة.. تزايدت هذه الفئة وأصبحت تشكل طبقة عرفت بالطبقة الوسطى تمييزًا لهم عن الباشاوات والبكوات من كبار ملاك الأراضي الزراعية وهم من كانوا يشكلون طبقة الأرستقراط. كان طبيعيًا أن تشتغل هذه الطبقة بالعمل السياسي حفاظًا على مقدراتها الآخذة فى التكون وحقوقها الآخذة فى التشكل.. ناهيك عن دورهم المنشود فى مقاومة الاحتلال وسيطرته المباشرة على البلاد من خلال المعتمد البريطاني ومعاونيه أو من خلال رجاله الموزعين فى كل مجالات التأثير الاجتماعي والسياسي. كان معظم هؤلاء الأفندية ينحدرون من أصول اجتماعية بسيطة لكنها تحمل داخلها ينابيع الفطرة البكر والدفء العتيق للصدق والأصالة ..بعضهم حافظ على قيم وتقاليد هذه الأصول وعاش وفيًا لتلك القيم وتأكدت لديه مسؤولياته وواجباته تجاه دينه ووطنه.. وبعضهم سعى سعيًا حثيثًا للانتقال إلى الشرائح العليا وما تصوروه أنه مفتاح سهل لغزو الدنيا وممارسة رذيلة (العلو)على الناس فى المجتمع الذى ما كان يعترف بالنكرات والمجهولين من أهل الكفاف والكفاية ليصبح بعدها من الباشاوات والبكوات.. أبرز أمثلة النوع الأول مصطفى كامل ابن مركز بسيون /غربية.. الذى سطر التاريخ لنا من عمره ثلاثين عامًا تقريبًا فقط كانت كلها نضالًا وجهادًا وترك لنا الحزب الوطني القديم الذي رأسه فتحي رضوان وكان الأستاذ البنا يراه أقرب الأحزاب إلى الفكرة الإسلامية.. إذ كان البنا رحمه الله بعد عشرين عامًا من اكتشاف الواقع وقتها (1928-1948م)قد قرر أن يعطى كل جهده للمجتمع تعليمًا وتربية وتزكية على طريقة سعيد النورسى فى تركيا ولكن بإخراج أكثر نضجًا وعمقًا وتنظيمًا.. وأبرز أمثلة النوع الثاني سعد زغلول بن مدينة أبيانه /كفر الشيخ الذى نشأ وتعلم وناضل وكافح مع الطبقة المتوسطة وما أن لمع حتى انضم إلى صالون الملكة نازلى وتزوج من ابنة باشا وأصبح هو الآخر بدوره باشا.. وقدم لنا نموذجًا يستحق أن يحتذى للموهوب ابن الطبقة الدنيا الذى تصعد به مواهبه إلى طبقات السلطة العليا.. بعدها سنسمع (صوتًا مكتومًا)عن المجتمع المطالب بسداد فاتورة الموهوبين في السياسة والزعامة بعد أن حملوا على رؤوسهم كل الأوحال التي ثاروا وتمردوا عليها فى ماضيهم القريب. حكاية الزواج من طبقة اجتماعية أعلى على طريقة جحا ستصاحب كل أصحاب النجومية السياسية عبر تاريخهم النضالي المهول.. (مصطفى النحاس ابن أحد تجار سمنود /غربية الصغار تزوج من ابنة أحد الباشاوات ورفض نصيحة أم المصريين فى أهمية أن يتزوج من أرملة أحد أبطال ثورة 1919!!؟؟). لكن أغرب شخصية نضالية فى عالم السياسة المتلألئ اللذيذ كان نجيب الغرابلى أفندي المحامى الصغير بن طنطا الذى لعب دورًا كبيرًا في قيادة الثورة بمدينة طنطا.. وكان شاعرًا وأديبًا وصاحب مواهب عديدة لم يكن لديه سلاح يستعين به فى معركة الحياة سوى مواهبه وطموح يقارب السحاب.. هذا الأفندي أراد سعد زغلول تعيينه وزيرًا للحقانية فى الوزارة التى شكلها فى يناير 1924 لكن الملك فؤاد اعترض على التعيين لضعف مكانته وضخامة المنصب عليه.. (لاحظ التوصيف) غير أنه وافق بعدها.. وبدلا من أن يكون تولى أحد أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة لهذا المنصب رصيدًا مضافًا لهذه الطبقة.. خصم منها!! ذلك أن الرجل لم يلبث أن انسلخ عنها ونال لقب الباشاوية واستمر وزيرًا طوال الثلاثينيات.. سواء مع الوفد أو غير الوفد!! بل إنه بعد ذلك أصبح خصمًا عنيدًا لدودًا للوفد. وأصبح انتماؤه الأول والأخير لنجيب الغرابلى.. ما أقل الشخص فى حالة نجيب الغرابلى بالقياس إلى رمزيته التى تشير إلى تلك الحالة سيئة السمعة المسماة (الطموح وتحقيق الذات)! وما أكثر تلك الشخصيات فى مراحل التحول والتغيير!.. فكما رأينا ظهرت شخصية الغرابلى بعد ثورة 1919م، حيث الخلخلة الاجتماعية والسياسية فى عموم الوطن وحيث الصعود والأفول وحيث الغياب والحضور.. كانت تلك الفترة تحتاج إلى أهل الجرأة والبجاحة كما كانت تحتاج إلى شعراء وخطباء ومحرضين وكان هو يمتلك تلك الصفات بامتياز فبرز نجمه ساطعًا وحافظ على هذا السطوع بعد انتهاء الثورة والاتجاه إلى مرحلة الدولة والوزارة فكان تاريخيًا أول أفندي يصبح وزيرًا.. (قبض ثمن مواهبه..!) ليست هذه هي المشكلة وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه) فجميل ورائع أن تعرف نفسك وما تحويه من قدرات ومهارات وما تحويه أيضًا من ضعف وعجز.. وما هلك امرؤ عرف قدره.. لكن المشكلة الحقيقية فى الاختلال الذى يحدث بين القدرة والطموح ويسدد المجتمع تكاليف المسافة بينهما.. المشكلة فى حالة غياب(الغاية).. فى زحام المطالب التى لا تكف النفس عن اعتبارها حقًا لها رغم أن كل معدود منقضي وكل ما هو آت قريب.. والإنسان كما يقول الروائي الفرنسي الشهير ألبير كامى هو الحيوان الوحيد الذى يرفض أن يكون حيوانًا.. نعم.. فحديث الروح داخله لا يكف عن مسامعه أن(إلى ربك الرجعى).. المشكلة في حالة الرغبة في (العلو)المصاحبة لحركة ونشاط الغرابلى وأمثاله فى حياتنا العامة.. السياسية منها تحديدًا.. الآية الكريمة تقول(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا فى الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين) ابن عطاء الله له تفسير رائع لمعنى العلو والفساد فيقول إن العلو هو النظر إلى النفس.. والفساد هو النظر إلى الدنيا.. وهل السياسة عند أصدقائنا إياهم من أمثال الأستاذ الغرابلى إلا النظر إلى النفس والنظر إلى الدنيا.. أنتم الناس يا أهل الحقيقة!! فى أواخر الستينيات من القرن الماضي وبعد أن مزقت حسرة الغياب ضلوع الشعب الذى هزم دون قتال فى 1967م على مذبح الصراع بين ناصر وحكيم.. بدأ الشباب ينظر إلى السياسة والسلطة.. وبدءوا يتوافدون بكثرة على منظمات الشباب وكان الفكر اليساري الذي أطلق ناصر مجاريه على المجتمع التعليمي والثقافي فى الستينيات قد جذب كثير من الشباب من أصحاب الشعار إياه(الطموح وتحقيق الذات).. وتكونت الحركة الطلابية الشهيرة.. التى فضحتها جان دارك السبعينيات (أروى صالح) وجمعت شهاداتها عنها فى كتاب صغير اسمه(المبتسرون) د/يحى الرخاوى كتب عنه دراسة شيقة.. وكنت قد كتبت عنه مرتين وهذه هى المرة الثالثة التى أشير فيها إلى هذا الكتاب.. وأنا بكل الاحترام والتقدير أدعو أحفاد الغرابلى الذين يملأون حياتنا السياسية والإعلامية صخبًا وضجيجًا إلى الرجوع إليه. والسعيد له فى غيره عظة ** وفى التجارب تحكيم ومختبر.. سيجدون فيه ما يفيدهم كثيرًا فى رحلة الطموح وتحقيق الذات ولكن بعد أن يبصرهم بمزالق المسالك على درب التحرر الداخلي من الشره والحسد والغل والطمع والصراع المقيت على النجومية. سيكتشفون بعد قراءته أن جهلهم (بالسياسة) يعادل جهلهم (بالحياة) نفسها.