قد يندهش الكثير منا عندما يعلم أن اليابان – وهي القوة الاقتصادية الكبرى –لم يكن لديها خلال الخمسين سنة الماضية سياسة اقتصادية بمعنى الكلمة فاليابان وعلى امتداد الفترة منذ الحرب العالمية الثانية اتبعت "سياسة اجتماعية" نبعت منها التوجهات الاقتصادية، فالفرد والمجتمع اليابانيين كانا هما الهدف، وعليه فإن مصر بالذات لايمكن أن تضع مشكلة تشغيل الملايين من العاطلين وطالبي العمل الجدد في المرتبة الثانوية، بل هي أهم التحديات ليس أمام واضعي السياسات الاقتصادية فقط بل أمام المجتمع بأسرة، وهي تتطلب الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، ويأتي التوسع وتشجيع مشروعات الخدمات في مقدمة السياسات لامتصاص البطالة يليها الصناعات الصغيرة والحرفية، وسيكون للتكنولوجيا الجديدة تأثير في أنماط الأعمال والمهارات المطلوبة من القوي العاملة حيث سيتم إلغاء كثير من المهن وخلق مهن أخري في مجالات جديدة وخاصة في قطاع الخدمات الذي سيستمر في التوسع لاستيعاب النمو المتوقع في القوى العاملة، قد أصبح لزامًا بل ومن الضروري تقييم الصناعة المصرية وتشكلية إنتاجها ليس فقط من وجهة المزايا النسبية لعوامل الإنتاج التقليدية المتمثلة في الأرض ورأس المال والعملة ولكن على المزايا التنافسية المبنية على التكنولوجيا والمعرفة، فلم يعد بإمكان المزايا النسبية تحقيق قدرات تنافسية بالمعدلات التي كانت متداولة في السبعينات، حيث تتشكل أسس المنافسة تدريجيًا من عمليات خلق واستيعاب المعرفة. وحينما نريد إعداد خريطة للصناعة المصرية فعلينا أن نضع في اعتباراتنا مجموعة الحقائق التي ترسخت فى نهاية هذا القرن .وأهمها أن الاقتصاد العالمي هو اقتصاد عالمي قافز للحدود. فقد أصبح الاستثمار يتعدى الحدود الجغرافية والسياسية وأسواق المال تنظمها شبكة معلومات نشطة ودقيقة على مدار الساعة، واكتسب عنصر البيئة بعدًا عالميًا، كما أصبح التغير والتطور في التكنولوجيا والإدارة هو العنصر الحاسم في معركة الإنتاج على المستوى العالمي. ويجب علينا أن نحدد أولًا الصناعات ذات الميزة النسبية في عوامل الإنتاج الأساسية. وهذا المحور هو نقطة البداية ولكنه لا يضمن الاستمرار أو التقدم، فهذه الصناعات يجب أن تتحول إلى مرحلة الابتكار دون المرور بمرحلة الاستثمار، مما يجعل الاختيار محكومًا بمجموعة الصناعات التي لا تعتمد اعتمادًا كبيرًا على اقتصاديات الحجم بل لابد أن تنتقل إلى الاستمرار والتحول إلى الابتكار من خلال الحصول على أفضل تكنولوجيا متاحة يلي ذلك تحديد الصناعات التي يتعين دخولها من خلال تحالفات عالمية لإمكان توفير أساليب الاستثمار والإدارة والتسويق العالمية، لذلك تتطلب المرحلة القادمة من عمليات الإصلاح الاقتصادي فهمًا متعمقًا لآليات اقتصاد السوق، لما تقتضيه هذه المرحلة من ضوابط وتشريعات جديدة تؤمن الانتقال السليم نحو الرأسمالية، وتقي الاقتصاد المصري من سلبيات التجربة والتي قد تؤدي عواقبها إلى تعثر الإصلاح برمته، وتأتي ضوابط منع الاحتكار وحماية المنافسة في مقدمة تلك التشريعات، وتتعدد التشريعات لتشمل أيضًا حماية المستهلك، وحماية المساهم الصغير والممارسات غير المشروعة بالبورصة، ونسب مشاركة الأجانب والشركات العالمية في المشروعات المصرية، وتيسير شروط تصفية النشاط، وحماية حقوق الابتكار والملكية الفردية .عمليًا لا يمكن اتباع نموذج دول شرق آسيا فى استراتيجياتها الأولية ذات التوجه التصديري نظرًا لأنها تمت في ظل ثوابت عالمية في الستينات، بينما سيناريوهات التبادل التجاري تأخذ حاليًا أشكالًا مختلفة ومتضاربة متمثلة في دور اتفاقية الجات وتزايد نصيب منتجات الصناعة التحويلية في الصادرات العالمية وذلك يعني تراجع الصادرات الأخرى كافة وأن المستقبل هو اللمنتجات الصناعية التحويلية وبالذات تلك المعتمدة علي التكنولوجيا وهي منتجات ذات قيمة عالية، مما يلزم ذلك أن نزيد من قدراتنا الهندسية في مجال "التصميم الصناعي" وهي خبرة أعتقد أنها غير متوفرة لدينا حتى الآن حتى تأخذ صادراتنا من المنتجات المصنعة والنسيجية نصيبًا متزايدًا في الصادرات العالمية، كما أن مصر يمكن أن تلعب دورًا هامًا في التجارة العالمية للمنتجات اللينة لتوافر الموارد البشرية المؤهلة في هذا المجال، يا سادة ... إن الإدارة هي ممارسة لنشاط فكري عالي المستوي، والمواجهة بين قيادات الأعمال في العالم هي في المقام الأول مواجهة بين قدرات ثقافية متعددة ، فالذين يديرون المنشآت يتسمون بالمهارة والحنكة في إدراك القضايا المعقدة وتحليل المشاكل ومناولة الأفكار وتقييم الحلول، حيث صار الاختراع والابتكار والإبداع هم الأسلحة الرئيسية للريادة الاقتصادية، وصارت المعرفة هي التي تحرك الاقتصاد وليس الاقتصاد هو الذي يحرك المعرفة.