حقيقة لا بد أن نستوعبها جميعا وهى أن المتحكمين فى هذا الفضاء الرقمى لهم ثقافتهم، ومما لا شك فيه سيمارسون انحيازا لتلك الثقافة الشيخة د. شما محمد خالد آل نهيان تتشكل الهوية الثقافية للمجتمع من مجموعة من الخصائص المشتركة التى تجمع جميع أفراده داخل منظومة واحدة مثل اللغة والعادات والقيم والأعراف التى تتوارثها الأجيال. وتشكل تلك الهوية رؤية الأفراد لذاتهم وفهمهم للعالم المحيط بهم. والهوية ليست مكونا جامدا، بل هى مكون متغير ومؤثر ومتأثر بغيره من الهويات، فليس هناك هوية ثقافية يمكن أن تعيش بمعزل عن الهويات الأخرى. فى عصر الفضاء الرقمى والذكاء الاصطناعى تحولت شبكات التواصل الاجتماعى إلى مفردة يومية أساسية فى حياة الفرد، ومن ثم أصبح التفاعل مع الهويات الثقافية المختلفة أكبر وأعمق، مما أعطى مساحة لتعرض الهوية الثقافية إلى التغيير الذى قد يصل إلى مرحلة التشوه أو الاستلاب. لذلك أصبح فرضا على كل مثقف صاحب فكر أن ينظر إلى القضية بصورة شاملة، ونحاول معا الوقوف على عمق التغير الذى يمكن أن يحدث وخاصة لهويتنا وثقافتنا العربية التى تجمع المجتمعات العربية داخل إطار هوياتى عام لكن لا يمنع ذلك من وجود بعض الاختلافات بين المجتمعات العربية، ولكن حين ننظر إليها بعمق سنجد أنها اختلافات ليست جوهرية. ماهية الفضاء الرقمى الفضاء الرقمى هو أحد المفاهيم الحديثة الذى اختلفت زوايا تعريفه، ويمكن أن نعرفه بشكل عام بأنه هذا الفضاء الإلكترونى الذى تتلاقى فيه الأفراد متخطية الحدود الجغرافية، ويرتبط هذا الفضاء بصورة أكثر عمقا بشبكات التواصل الاجتماعى التى صارت هى العمود الفقرى له، داخل هذا الفضاء تتكون المجتمعات الافتراضية التى تعكس اهتمامات وأيديولوجيات متشابهة لأعضاء ثقافات مختلفة. وهنا نقف أمام حقيقة لا بد أن نستوعبها جميعا وهى أن المتحكمين فى هذا الفضاء الرقمى لهم ثقافتهم، ومما لا شك فيه سيمارسون انحيازا لتلك الثقافة، فهذا أمر فطرى إن لم يكن مقصودا؛ ومن ثم لا بد أن نقف أمام تحديات التغيير الثقافى الذى يمثل تحديا كبيرا للثقافة العربية وغيرها من الثقافات المستهلكة للمعرفة. تحديات الهوية الثقافية العربية بعد أن أصبح الفضاء الرقمى جزءا صلبا من معادلة الحياة اليومية يواجه الشباب تحديات عديدة تؤثر بطريقة مباشرة وبقوة ما فى هويته الثقافية، من أهم هذه التحديات: الاستلاب الثقافى: حالة الانبهار بالثقافات الأخرى التى يتفاعل معها الشباب العربى وخاصة تلك الثقافات الأكثر قوة علميا واقتصاديا وسلوكيا ورفاهية تجعل الشباب بتصرف لاواعٍ يهمشون الثقافة الوطنية ويبنون مفردات جديدة تستقى تفاصيلها من الثقافة الأخرى وخاصة مع عولمة اللغة الإنجليزية التى تجعل من المنتج الثقافى الغربى أكثر حضورا، مع الوقت يفقد الشباب القدرة على التعبير عن ثقافته، ويفقد بوصلة هويته تفكك الترابط المجتمعي: حالة التمزق التى يعيشها الشباب فى ظل الصراع بين قيم وعادات ثقافته الأم والثقافة التى استلبته تضعه أمام مأزق نظرته الدونية لمجتمعه وثقافته؛ مما يؤثر بطريقة مباشرة على العلاقات الاجتماعية ليس داخل المجتمع، بل إلى خصوصية وعمق أكبر يصل إلى الروابط الأسرية داخل الأسرة الواحدة. الانغماس فى العزلة: انفصال الشباب عن واقعهم ومجتمعهم وانغماسهم داخل الفضاء الرقمى والعالم الافتراضى يزيد العزلة المجتمعية للفرد، وهذه العزلة تزيد تمزق الروابط المجتمعية، وهذا ينعكس على الأمن والاستقرار المجتمعي، وعلى المدى البعيد قد يؤدى ذلك إلى تفكيك المجتمع وتعرضه لخطر الانهيار والهزيمة الثقافية التى هى أشد قسوة وضررا من الهزيمة الحربية. فقدان الثقة بالثقافة الوطنية: مع تداعيات الاستلاب الثقافى والأزمات الثقافية أو الاقتصادية التى يعيشها الشباب العربى وحالة الانبهار بمفردات الثقافات الغربية التى تعتمد على الوعى الحسى والمادى، وأضف على ذلك حالة تشويه الثقافات الوطنية لصالح الثقافات الأخرى وسط هذا الصخب الهوياتى يفقد الشباب الرؤية الروحية والجانب العاطفى والقيمى تحت ركام الاستلاب، ويبدأ الشباب يفقد ثقته بهويته الوطنية، ومما يخلق أجيالاً من اللا منتمين ينعكس سلبا على المدى البعيد على تماسك المجتمع ووحدة الأوطان. كل تلك العوامل وغيرها يضع المجتمعات العربية أمام تهديد الهزيمة الثقافية؛ وتصبح فى مرمى انهيار الأمن المجتمعى. هل ثمة وجه آخر؟ هل ثمة وجه آخر غير ذلك الوجه المهدد لهويتنا وثقافتنا الوطنية؟ نعم ليس هناك وجه واحد، بل دائما ثمة وجه آخر إيجابى لهذا العالم الافتراضى، فهو يتيح لنا الآتى: التواصل الثقافى الإيجابي: ليس كل تفاعل ثقافى هو استلاب، بل هناك تواصل ثقافى يؤدى إلى تلاقح فكرى وهوياتى بين الثقافات ينتج عنه تأثير إيجابى فى تطور الثقافات المتفاعلة. رقمنة التراث والهوية الوطنية: يمكن للشباب الواعى استخدام العالم الافتراضى فى رقمنة وتوثيق مفردات الثقافة الوطنية والموروث المادى والمعنوى وإنشاء محتويات رقمية تعكس بطريقة إيجابية مفردات الثقافة الوطنية وهذا التوثيق يساهم بصورة وثيقة فى تعزيز مفردات الهوية الثقافية فى المجتمع. التعليم الرقمى: لدينا مساحة كبيرة وحرية واسعة فى طرح الثقافة العربية من خلال برامج تعليمية للغة العربية عبر منصات التواصل الاجتماعى متضمنة طرح المفردات الروحية والإنسانية والمعرفية التاريخية لثقافتنا العربية والهوية الوطنية لكل مجتمع، هذا يجعل لثقافتنا وجودا حقيقيا تفاعليا داخل العالم الافتراضى؛ مما يعزز ثقة الشباب فى هويتهم، ويقاوم حالة الاستلاب والانجراف ناحية ظهور ثقافات مشوهة لا هى عربية ولا هى غربية. الشباب وتحديث الهوية الثقافية الهوية ليست كائناً جامداً، بل هى كائن حى يقبل التغير والنمو المستمرين فهل مفردات الثقافة العربية فى العصر الحديث هى نفسها تلك المفردات التى كانت عليها قبل 500 سنة؟ بالتأكيد لا، هناك تحولات تحدث، ولكن تبقى تلك التحولات داخل الإطار العام للثقافة، ومع عصر الذكاء الاصطناعى وشبكات التواصل الاجتماعى صارت تلك الحركة أكثر سرعة، وصار التغير والتحول أكثر عمقا. هنا يبرز دور الشباب فى التغيير، فقد أصبح الشباب هو العنصر الأكثر تأثيرا فى أى تغيير يحدث فى الثقافة العربية، لكن هذا الدور لا بد أن يكون له مجموعة من الضوابط الثقافية، وتلك الضوابط لا يمكن تحقيقها دون بناء تربوى وثقافى سليم عبر تنمية قدرات العقل النقدى عند الأطفال، حتى يمكن تنشئة وبناء أجيال قادرة على التفكير النقدى والإبداعي، وهذه العقول لا تتأثر بصورة عمياء بأى ثقافة أخرى، إلا بعد التفكير فى مفرداتها بصورة نقدية تفكك مكوناتها، وتعيد تركيبها بما يتوافق بصورة ما مع الثقافة الوطنية. من أهم تلك الضوابط البناء الثقافى الهوياتى المتين والعميق فى الأطفال والناشئة فقوة هذا الأساس تجعله قادرا على مقاومة الاستلاب والتغيير السلبى وإعطاء المساحة النقدية الكافية لفهم مفردات الثقافة الوطنية والمراجعة الإيجابية التى تدرك حالة التغير والتحول الحضارى للإنسانية؛ فنصل إلى نوع من أنواع التوازن بين الموروث التقليدى وبين التحولات الحداثية. فى الختام يمكننا القول إن الشباب العربى يقف على مفترق طرق بين التمسك بهويته الثقافية والتأثر بالثقافات الأخرى عبر الفضاء الرقمى، بينما توفر التكنولوجيا هذه المساحة من التواصل والتبادل المعرفى والثقافى، فإن التحديات التى يواجها الشباب العربى فى الحفاظ على ثقافتهم وهويتهم ما زالت كبيرة ومتنوعة، وهذا ينعكس على الأمن المجتمعى، ويبقى السؤال المحورى والهام: هل يمكن واقعيا تحقيق التوازن على المستوى الفردى والمستوى المجتمعى ما بين التفاعل مع الثقافات الأخرى وبين الحفاظ على موروثنا الثقافى وهويتنا الوطنية؟ تظل الإجابة مرهونة بقدرة الشباب على إعادة صياغة التوازن ليتوافق مع تطلعاتهم واحتياجاتهم، وفى ذات الوقت يعكس قيمهم وتاريخهم الثقافى. تظل الرحلة طويلة والتحديات كثيرة، ولكن يبقى أن نقرأ المشهد بصورة واعية كى ندرك ومع الإدراك تبدأ رحلة التوازن. باحثة إماراتية فى الأمن الاجتماعى والثقافى، أستاذة زائرة بكليات التقنية العليا للطالبات أستاذة زائرة بجامعة الإمارات العربية المتحدة