حينما تقرأ كتابات الأجانب فى القرن 19 عن رحلتهم النيلية من أقصى الشمال على ساحل البحر المتوسط حتى أسوان، تتأكد أن مصر ليست بكماء لتنطق بجمالها، ولا صماء لتعبر عن حيويتها. بل تشعر أن بلدنا الجميل يعرب عن كل ما فيه من سحر وجمال وفتنة. فحين تتابع رحلتهم النيلية من الإسكندرية، عبر ترعة المحمودية التى حفرها محمد على، حتى الأقصروأسوان تتفاخر بانتمائك لهذا البلد الكريم الذى صنعه الله على عينه، وحباه بالجنات والعيون والقصور والنعم. وتشعر بأن خطب الشيخ محمد العريفى عن مصر، تتحقق عبر عيون أخرى وتتأكد. فقد فُتن الأجانب بمصر وسحرهم جمالها ونيلها. وحينما تقرأ فى رحلات الكرواتى جوندروم وعالم الآثار الفرنسى شامبليون والرحالة الإنجليزى برتون عبر نهر النيل، تتمنى أن لو تعود تلك الرحلات النيلية لتستأنف دورها من أقصى الشمال لأقصى الجنوب من جديد. فأحاديثهم عن رحلتهم خلال ترعة المحمودية عبر البواخر من الإسكندرية حتى قرية سنديون على النيل، لتخرج منطلقة عبر فرع رشيد، لتستكمل رحلتها جنوبًا نحو القاهرة، ثم إلى الأقصروأسوان، تجعلك تود أن لو تقرأ المزيد والمزيد عن بلدك الجميل. لتتعرف على بلد يعرفه الأجانب أكثر مما يعرفه مواطنيه. حينما تقرأ الأجانب وهم يتحدثون عن خيرات مصر التى تحملها السفن التى تقلهم، وتقرأ لهم وهم يصفون سماوات مصر الحليب، والشموس المتحركة، والنسائم الملطفة، وشياطين الرمال التى تتناثر عليهم كالجان، فإنك تقرأ التاريخ غير الرسمى لأجمل بلدان الدنيا. وحينما تقرأ وترى معهم المياه العكرة بفعل الفيضان، والقنوات المائية المرصوصة على الشطوط، تشعر ببلدك الزراعى العملاق. وحينما ترى وصفهم للقرى المشيدة بالطين على ضفتى النهر، وأبراج الحمام وأشجار الصفصاف والسنط وحقول الذرة وقصب السكر، وترى فلاحينا بجلابيبهم الزرقاء يتبعون المحاريث ويزرعون الأرض، وترى الجواميس الملطخة بالطين، والحمير البائسة والكلاب التى تشبه الثعالب، تتأكد أن مصر تتحدث عن نفسها وتذخر بخيراتها وتتمايل بجمالها. وتتمنى أن لو تعود تلك الرحلاب لتمخر فى قلب النيل مرة أخرى. وأن ترى وطنك ولو لمرة واحدة فى حياتك فى رحلة نيلية، لتكتشف هذا الجمال المدفون. حينما تقرأ الأجانب يصفون المصريين وهم يقومون بترقيص الجمال والحمير والكلاب، ويتبارزون بالسيف والفرس والعصا فى القرى النيلية التى نزلوا بها، تتأكد بأن عروضهم المفتوحة لثقافتهم قد بهرت كل الداخلين لهذا البلد، مسرح الطبيعة المفتوح. وحين تراهم يصفون أيام رحلتهم النيلية عبر الباخرة، بأنهم فى كل مرة يستيقظون من نومهم، يستطيعون إبداء إعجابهم بالشمس والضوء، وبكل شيء لم يروه من قبل، وتستمتع معهم وهم ينزلون بين المدينة والأخرى لعدة ساعات، ليشاهدوا المعابد والآثار، وليستمتعوا بجو البلاد، وبشرح المترجمين عما يريدون، وأنهم بعد كل استمتاع يعودون للباخرة لاستئناف رحلتهم نحو الأقصروأسوان من جديد، تتأكد محبتك لبلدك الشاعرى والأديب. بل ستندهش حين تراهم يعبرون، بأن الشواطئ المصرية تتكرر معها الصور والحياة العادية للناس، وهى تقترب وتبتعد من النيل. وسترى معهم كيف تحكم الفرنسيون فى آثار البلاد، والإنجليز فى خيراتها، والألمان فى إدارة فنادقها. تتعرف من خلالهم على كوك الإنجليزى وقد حصل من محمد على باشا على امتياز الرحلة النيلية لسفنه من أسوان للقاهرة. وأن مدة الرحلة تستغرق 15 يومًا، وأنها تحتاج ما بين 32-37 يومًا ذهابًا وعودة. لتتأكد أن رحلة المياه من الجنوب للشمال، والتى تستغرق خمسة أيام، تتغير على المسافر ثلاث مرات. وحين تتابع معهم القواعد التى تتبعها الرحلة النيلية فى الماضى، من أن الباخرة لا تبحر خلال الليل، وأن السفر، رغم توفر طبيب على ظهر الباخرة، يتطلب شخصًا مكتمل الصحة البدنية والنفسية، حتى يستطيع الاستمتاع بكل ما يراه ويشاهده، وأن يكون لديه المال الكافى وأجرة الطريق، وأن يذاكر حضارة مصر المتنوعة ليتعرف على كافة النواحى الثقافية حتى لا يضطر للقراءة عبر السفر، وليستمتع بقراءة الصور التى يراها فى متحف الطبيعة المتحرك، وأن يتجنب المشروبات الكحولية لأنها تثير الأعصاب، كون الانشغال بالشراب يفقده ملاحظة الانطباعات التى تتوارد أمامه، مع كل مشهد يراه عبر الجنة المصرية، وأن التدخين وإفساد هواء النيل العليل والصحى ممنوع، تتأكد بأن الالتزام بالقواعد الموضوعة كان أمرًا مهمًا وإجباريًا للاستمتاع بالرحلة. وأن الذين يتخوفون من قيود الإسلاميين المقبلة فى هذا الباب، لا يتعدى ما كان معروفًا ومقبولًا من الأجانب فى الماضى، ولم ينكروه. من المؤكد أن حديثنا عن السياحة النيلية فى الماضى هى دعوة لعودة الرحلات النيلية من جديد، لتكون للمصريين والأجانب على السواء. فالتفكير فى إعادتها للأجانب ليستمتعوا ببلاد محرمة على أهلها، سيتسبب فى استمرار الخلل الذى كان قائمًا فى الماضى. الرحلة النيلية هى إذًا، دعوة ثقافية ترفيهية سياحية جمالية عبر الجنة المصرية لنا نحن المصريون قبل غيرنا. وهى مشروع سياحى ضخم، يتطلب أعدادًا كبيرة من السفن والموظفين والمراسى والإسعافات والحماية. يمكنه أن يدر على البلد مليارات الجنيهات، لو تم الاستعداد له جيدًا. وبالطبع فإن كل مصرى يتمنى أن يرى بلاده عبر النيل، فربما يخرج المصريون بقراءات جديدة عن بلدهم بعد هذه الرحلة. كونها ستكون رحلة العمر لكل مصرى ومصرية فى جنة بلاده النيلية. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.