بينما انقب فى مقالات الروائى علاء الأسوانى استرعى انتباهى مقالاً كتبه فى 31 أغسطس2010 بعنوان: "لماذا لا يذهب المصريون إلى الانتخابات؟".. تعرض فيه الأسوانى لحدث من أحداث التاريخ وهو موقف الشعب المصرى عقب ثورة 1919، وإرسال بريطانيا للجنة ملنر الذى رفضها الشعب عن بكرة أبيه، وأشاد الأسوانى بوعى كافة طوائف الشعب من نخبة وعامة على السواء، فقال: "وصلت لجنة ملنر إلى القاهرة لتجد فى انتظارها مقاطعة شاملة، لم يقبل سياسى مصرى واحد التعامل مع اللجنة حتى إن رئيس الوزراء آنذاك محمد سعيد باشا استقال من منصبه حتى لا يضطر للتعامل مع اللورد ملنر، ويحكى أن اللورد ملنر ضل طريقه ذات مرة فى شوارع القاهرة فلما سأل سائقه أحد المارة عن العنوان أجابه الرجل: «قل للخواجة بتاعك يسأل سعد باشا فى باريس" ..كانت نتيجة هذا الإجماع الوطنى أن فشلت لجنة ملنر فى مهمتها واضطرت الحكومة البريطانية إلى الإذعان لإرادة المصريين والتفاوض مع سعد زغلول مباشرة.. هذا الوعى السياسى الحاد للشعب المصرى ستجده بلا استثناء فى كل صفحة من تاريخ مصر. المثقفون والساسة يحللون كل شىء بناء على نظريات وأفكار مسبقة وهم يتكلمون كثيرًا ويخوضون مناقشات معقدة يختلفون فيها دائمًا،) أما الناس العاديون، حتى ولو كانوا أقل تعليمًا، فهم كثيرًا ما يتمتعون بفطرة سياسية سليمة تمنحهم رؤية ثاقبة لكل ما يحدث فيتخذون ببساطة مذهلة الموقف الصحيح)! .. ما زلنا بعد أربعين عامًا من وفاة الزعيم جمال عبدالناصر نتناقش حول أخطائه وإنجازاته، أما الشعب المصرى فقد قال كلمته عندما مات عبدالناصر فخرج ملايين المصريين ليودعوه إلى مثواه الأخير.. (هؤلاء البسطاء الذين أجهشوا بالبكاء كالأطفال حزناً على عبدالناصر كانوا يدركون جيدًا كل أخطائه ويعلمون أنه تسبب فى هزيمة قاسية لمصر والأمة العربية، لكنهم أيضًا أدركوا أنه كان زعيمًا عظيمًا نادرًا فى إخلاصه لمبادئه وأنه بذل جهده وحياته من أجل أمته. عندما تختلط علينا الاختيارات- نحن المثقفين - يجب أن ننصت دائمًا لرأى الشعب.. إن أفراد الشعب ليسوا أبدًا، كما يقول المسئولون المصريون، دهماء أو غوغاء لا يعرفون مصالحهم، بل هم على العكس يتمتعون عادة ببوصلة لا تخطئ يحددون على أساسها الموقف الصحيح). إذا كنا نعانى انحراف مثقفين كثيرين عن الخط الوطنى وتحولهم إلى أعوان وأبواق لنظام الاستبداد فيجب أن ندرك أن سقوط المثقف يبدأ دائمًا باحتقاره للشعب.. لا يمكن أن نفهم بلادنا إلا إذا فهمنا الشعب ولا يمكن أن نفهم الشعب، إلا إذا احترمنا قدراته وتفكيره، واستمعنا إلى آراء الناس واختياراتهم وتعاملنا معهم، ليس باعتبارهم كائنات ناقصة الإدراك والأهلية تحتاج إلى وصايتنا، وإنما باعتبارهم أشخاصًا يتمتعون بخبرة فى الحياة يجب أن نتعلم منها.. بعد أسابيع قليلة سوف تبدأ انتخابات مجلس الشعب وقد رفض النظام إعطاء أية ضمانات لنزاهة الانتخابات: رفض إلغاء قانون الطوارئ ورفض تنقية جداول الناخبين من أسماء الموتى (الذين يصوتون دائما لصالح الحزب الحاكم)، ورفض الإشراف القضائى أو حتى المراقبة الدولية، كل المؤشرات إذن تقطع بأن الانتخابات القادمة ستكون مزورة مثل كل الانتخابات السابقة.. فى مثل هذه الظروف يقرر الشعب المصرى مقاطعة الانتخابات، وبالرغم من محاولات النظام المستميتة فإن نسبة الحضور لا تتعدى أبدًا 10 فى المائة من الناخبين. السؤال هنا: لماذا لا يذهب المصريون إلى الانتخابات؟ الحقيقة أن مقاطعة المصريين للانتخابات ليست تصرفا سلبيًا، كما يردد كتبة النظام المنافقون وإنما هو موقف واعٍ وفعال وصحيح. إذا كانت الانتخابات مزورة وإذا كان منع التزوير مستحيلاً، فإن المقاطعة تصبح الاختيار الصحيح، لأنها تمنع النظام من الادعاء بأنه يمثل الشعب الذى يحكمه.. من هنا نفهم إلحاح النظام الشديد على المصريين حتى يشاركوا فى الانتخابات القادمة، فالمسرحية قد تم تأليفها وإخراجها وتوزيع أدوارها بالكامل، إنهم فقط يحتاجون إلى مجموعة من الكومبارس حتى يبدأوا العرض. الشعب المصرى ليس سلبيًا أبدًا لكنه حكيم تكونت خبرته على مدى قرون طويل. والدليل على ذلك حرص المصريين على الاشتراك فى أى انتخابات محترمة". هذا هو موقف علاء الأسوانى قبل اندلاع ثورة يناير بحوالى خمسة شهور، عندما كان يتحالف مع الإخوان المسلمين الذين كانوا لهم الشارع كله، فلجأوا إلى هذا الفصيل ليلتحفوا بهم ضد جبروت مبارك ونظامه البوليسى القمعى وقت أن كانوا يتعاملون بحرص وبمبدأ "سيب وأنا سيب"، فأطلق لهم هامشاً من الحرية لتجميل صورته أمام الرأى العام فى الداخل والخارج، فى حين نكل بالإسلاميين ولم يتعرض النظام وأمن دولته لأمثال علاء الأسوانى بأى أذى، فالرجل كان يتحرك فى كل مكان فى الداخل والخارج ولا يعترض له أحد، يذهب إلى أوروبا وأمريكا يزور أضرحة المفكرين الليبراليين ويتسوق ويعيش حياته بين الغوانى، فى حين كان قادة التيارالإسلامى خلف القضبان وتصادر أموالهم ، ولما رجع الشعب إلى رشده وخلع رأس الاستبداد واختار التيار الذى وقف بجانبه ولم يتعالَ عليه، كفر هؤلاء بالديمقراطية التى صدعونا بها فى الماضى وحنقوا على هذا الشعب الذى يكرهونه أصلاً ولا يهتمون بوجوده، وقف هؤلاء المرضى النفسيون والإقصائيون يوصون بتنحية الأميين من الإدلاء بأصواتهم فى أى انتخابات تجرى، وتبعه فى هذا من يدور فى فلكه من سدنة النظام البائد، فلم نستغرب قول أحدهم هو الروائى الماركسى إبراهيم عبدالمجيد الذى قال على إحدى قنوات التليفزيون المصرى الرسمى بأن (الأمى كمشترى السيارة لا يعرف القيادة إذا حاول قيادتها فيصطدم بها فى أقرب جدار)، واتهم الكاتب الروائى فؤاد حجازى فى مؤتمر أدباء مصر عام 2011، الذى كان رئيساً لهذا المؤتمر- الشعب المصرى بالجاهل الذى لا يميز بين ما يفيده وما يضره لأنه اختار الإسلاميين فى مجلس الشعب. [email protected]