لأن خبرة الواقع دلت على أن الخلاف العلماني الاسلامي أصبح المعوق الرئيسي المعطل للاجماع الوطني، في مصر على الأقل، فإن مسؤولية اللحظة التاريخية الراهنة التي نمر بها تفرض على الجميع أن يرتفعوا فوق حساباتهم ومراراتهم، وأن يسارعوا الى رأب ذلك الصدع الخطير، وإذا لم يفعلوها الآن وليس غدا، فلن يغفر لهم ذلك، في الدنيا والآخرة. (1) إذا جاز لي أن أدخل من آخر الكلام أوله يعرفه الجميع فإنني أدعو إلى “حلف فضول” جديد يعقده الطرفان بأطيافهما المختلفة، ومنه ينطلق الجميع لتحقيق الأهداف الوطنية المشتركة، التي تصب في وعاء الإصلاح السياسي وإحداث التغيير المنشود، ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن ثمة إجماعاً على تشخيص الحالة ولكن الخلاف السياسي يدور حول الإجابة عن مختلف أسئلة العلاج. لماذا حلف الفضول بالذات؟ قبل أن أجيب، أروي قصته باختصار لمن نسي أو لم يتح له أن يطلع عليها، ذات يوم في أواخر القرن السادس الميلادي، في الأغلب بين عامي 590 و600 ميلادي قبل الإسلام جاء إلى مكة تاجر يمني من بلدة زبيد، وأعطى بضاعته لرجل من بني سهم في مكة، ولكن الأخير ظل يماطل في دفع الثمن، مستثمراً غربة اليمني وضعف حاله، وإذ ضاق الرجل بسلوك المكي، فإنه صعد إلى جبل صائحاً ومستغيثاً بفضلاء مكة ولما سمع نفر منهم بندائه استدعوه ليتحققوا من روايته، وحين ثبت لهم ذلك، فإنهم ذهبوا إلى المكي وأجبروه على دفع ثمن البضاعة، ثم رأى أولئك الفضلاء أن يجتمعوا مرة ثانية في دار أحدهم عبدالله بن جدعان كي يتعاهدوا ألا يدعوا ببطن مكة مظلوما من أهلها أو من سائر الناس إلا كانوا معه على ظالمه حتى ترد له مظلمته، ومنذئذ سمي ذلك العهد حلف الفضول، ووصفه في وقت لاحق محمد بن عمر بن الخطاب بأنه “اشرف حلف كان قط” وفي قولته هذه إشارة إلى حلفين قبليين كانا قبله هما حلف الأفضال وحلف المطيبين وقد باركه لاحقا النبي عليه الصلاة والسلام وقال فيه: “شهدت مع أعمامي في دار عبدالله بن جدعان حلفا لو أنني دعيت بمثله في الإسلام لأجبت”. لماذا فكرة الحلف الآن؟ لأنه كان في حينه نقلة تاريخية حضارية، جعلت منه أول تجمع في التاريخ للدفاع عن حقوق الضعفاء أو حقوق الإنسان بلغة زماننا، ولأنه حلف أهلي خالص انعقدت حوله إرادة الفضلاء الشرفاء في المجتمع، ولأنه استهدف نصرة المظلومين قاطبة من أهل مكة أو من غيرها، ولأن نبل الهدف فيه جعله متجاوزا الايديولوجيات حتى باركه وتمنى الانضمام اليه نبي الاسلام رغم ان اطرافه الاصليين كانوا مشركين. هذه السمات جعلت من الحلف مرشحا للاحتذاء من جانب نخبة الفضلاء الذين اختاروا نصرة امتهم، واجتمعت إرادتهم حول ذلك الهدف النبيل، رغم ما بينهم من اختلاف في المعتقدات او الاجتهادات وهو أكثر ما يحتاجه التحرك المصري الآن. (2) في الأسبوع الماضي أحصيت 14 تجمعاً جديداً ظهر في مصر، معبرا عن الدعوة الى التغيير ومطالبا بجدية الاصلاح السياسي، ولم أذكر تجمعات التيار الاسلامي أولا لأنها ليست جديدة، وثانياً لأن الاوضاع السياسية التي تقيد حركتها دفعت عناصرها الى الانخراط في تجمعات أخرى. والمتابع لتحركات الشارع المصري لا يفوته ان يلاحظ ان المشاركين في تلك التحركات يظلون في حدود المئات، حين لا يشارك فيها التيار الإسلامي ولكن ذلك العدد يتحول الى ألوف في وجود عناصر ذلك التيار، ولعلي لا أبالغ إذا قلت ان تلك التحركات تظل نخبوية بصورة نسبية حتى إذا شارك فيها التيار الاسلامي فإنها تتحول إلى محيط جماهيري واسع، فضلا عن ذلك فإن خبرة الاسابيع الماضية دلت على ان التجمعات الوطنية التي نتحدث عنها تتركز في العاصمة وعدد محدود للغاية في المدن الكبرى، في حين ان التيار الإسلامي استطاع في احدى المناسبات ان يثبت حضورا مشهودا في 14 محافظة في وقت واحد. (3) من بين الدلالات المهمة والمباشرة لحجم الحضور في التحركات الأخيرة التي شهدها الشارع المصري أن الرسالة تكون أعلى وأقوى تأثيراً حين يشارك التيار الإسلامي، أما حين يغيب لسبب أو لآخر، فالعكس صحيح تماماً، الأمر الذي يكسب تلك المشاركة أهمية خاصة، حتى من باب البراجماتية أو الانتهازية السياسية، بسبب من ذلك زعمت أن غياب التيار الإسلامي أو تغييبه يضعفان من الاحتشاد الوطني المطلوب في اللحظة الراهنة، بل ويحولان من دون بلوغ المسيرة غاياتها المنشودة، والخاسر الأول والأكبر في ذلك ليس ذلك التيار، وإنما المصلحة الوطنية العليا، لأن الفصام وما يستصحبه من إقصاء، له ضرره بالمصلحة الوطنية العليا، فإن السؤال الذي لابد أن يطرحه كل وطني غيور هو لماذا وصلت الأمور إلى ذلك الحد؟ والا توجد أرضية للتفاهم المشترك بين “فضلاء” الجانبين؟ الأمر ليس سهلاً ولا هو مستحيل، إذ لاشك أن ثمة خلافاً بين الطرفين في الفلسفة والمرجعية والمقاصد النهائية، لكن من قال ان هذه هي القضايا الملحة المطروحة في الوقت الراهن، وأليس من الترف المستنكر أن يواجه الوطن والأمة تلك القائمة الطويلة من التحديات والمخاطر التي تهدد المصير والوجود، من الاحتلال والتركيع إلى احتكار السلطة والفساد مروراً بالأمية والتخلف الاقتصادي، ثم تنصرف النخبة عن ذلك كله، لكي تتعارك حول الفلسفة والمرجعية والمقاصد. في عام 87 حين ولدت حركة حماس ذكر بيان تأسيسها أن فلسطين وقف إسلامي، وتحدث عن ضرورة إقامة الدولة الإسلامية على الأرض المغتصبة، وهو ما انتقدته وقتذاك في مقالة كان عنوانها “فلسطين المحررة قبل فلسطين الإسلامية” وهو موقف مازلت أدعو إليه يتمثل في التركيز على ما هو سياسي راهن وتأجيل الفكري والمقاصدي حتى يحين أوانه. هذه النقطة عالجها بشكل أوفى وأعمق المستشار طارق البشري في كتاب بالغ الاهمية عنوانه: “الحوار الاسلامي العلماني” نشرته دار الشرق ضمن سلسلة مؤلفاته حول المسألة الاسلامية المعاصرة، اذ لاحظ في تتبعه لمسار الصراع الاسلامي العلماني خلال العقدين الاخيرين انه يتجه للاستقطاب على أساس فكري، وليس على أساس سياسي أو اقتصادي، ففي فترات سابقة من التاريخ كان الاستقطاب يتم على أساس سياسي محوره القضية الوطنية، الأمر الذي يؤدي الى اجتماع القوى الوطنية التي يهمها استقلال الوطن في مواجهة من تعتبره الخصم الاساسي وهو قوة الاحتلال او الاستعمار ومن والاه من القوى الداخلية اما في العقدين الاخيرين، فلم تعد قضية التبعية السياسية ولا قضية الديون الاجنبية وتحقيق النهضة الاقتصادية، لم يعد أي من ذلك هو أساس الاستقطاب الآن، وانما تبلور في قضية الشريعة الاسلامية أو الدين بالحياة. (4) ما السبيل الى عبور الفجوة كي يحل الوفاق محل الشقاق، وينفتح الطريق امام اقامة حلف الفضول الذي لا أرى عنه بديلا في الوقت الراهن؟ قبل أي شيء أريد ان انبه الى انني اتحدث الى فضلاء الجانبين وعنهم، وهو وصف يخرج منه الغلاة، الذين يدعون الى الكراهية والإقصاء ويستشعرون عارا من انتمائهم العربي والاسلامي، كما أدعو الى تجاور التصنيف النمطي الذي يرى في كل العلمانيين كفارا او في كل الناشطين الاسلاميين طالبانيين وارهابيين. أدعو أيضاً الى محاولة تحري وتوظيف مصادر القوة لدى الجانبين وليس مصادر الضعف، قوة الطاقة الايمانية عند الاسلاميين التي تمثل ذخيرة مهمة لمشروع النهضة، وقوة الدفاع عن الحرية وحقوق الانسان عند المعتدلين من العلمانيين، التي تمثل أهم حصانات ودفاعات مشروع النهضة، ذلك ان وضع اليد على مصادر القوة وحده هو الذي يوفر فرصة مواتية للتكامل في جهود الاصلاح والتغيير التي تمهد للنهضة المرجوة. وإذا أردنا ان نتصارح أكثر فإن الاسلاميين يجب عليهم ان يكفوا عن اتهام العلمانيين على اطلاقهم في اعتقادهم أو في ولائهم الوطني، وعلى العلمانيين أن يكفوا عن مطالبة الاسلاميين بالتنازل عن جزء من اعتقادهم عن طريق الالحاح الدائم على ما يسمونه عدم تسييس الدين، اذ صار من العبث المطالبة بإجراء مثل ذلك الخصم. وإذا كان توجيه ذلك المطلب من العبث بمكان، فإن تجاهل مخاوف وقلق قطاع عريض من العلمانيين من كثرة ترديد شعار “الاسلام هو الحل” يعد موقفا عبثيا بدوره اتفق في ذلك مع ما دعا اليه المستشار البشري في مطالبته الاسلاميين بألا يكون خطابهم مقصوراً على الدعوة الى مطلق الاسلام فقط، وانما عليهم ان يترجموا تلك الدعوة الى تحرير الاوطان والنهوض السياسي والاقتصادي الاجتماعي المستقل، واشاعة الديمقراطية وضمان المساواة بين متعددي الأديان من المواطنين، ومراعاة البيئات الاجتماعية المختلفة في البلاد المختلفة لكي تتخلل الدعوة الاسلامية مطالب الناس، وتستجيب لحاجاتهم فضلا عن ضروراتهم. (5) توفر الشروط التي أشرت اليها يفتح الباب واسعا لتلاقي الايدي، والاتفاق على بنود الهم أو الأرضية السياسية المشتركة التي يقوم عليها الحلف المنشود، ومن أسف ان ثمة جهدا سابقا لم يكلل بالنجاح في هذا الاتجاه، بذلته النقابات المهنية المصرية في عام 95 حين دعت ممثلي القوى السياسية المختلفة الى ما سمي في حينه ب (ميثاق المصالحة الشعبية والوفاق الوطني) الامر الذي ادى الى شرذمة الجماعة الوطنية وانفراط عقدها. وهو ما أثار لدي خوفاً من تصديق الفكرة التي سمعتها ذات مرة من الدكتور عبدالعزيز كامل، أحد حكماء مصر الراحلين، حيث شكك في نجاح المصريين في العمل المشترك. إزاء ذلك فإن التحدي الذي تواجهه الجماعة الوطنية المصرية الآن بات يتمثل في السؤال التالي: أيهما يكتب له النجاح في نهاية المطاف، حلم استدعاء “اللحظة القُرَشية” التي أفرزت حلف الفضول أم “اللحظة الفرعونية” التي أنتجت الأهرامات الثلاثة؟ ----- صحيفة الاهرام القاهرية في 21 -6 -2005