صعب على واحد مثلي تتلمذ على كتب وإنتاج المستشار طارق البشري أن يختلف معه، وأصعب منه أن يبادر إلى الإعلان عن هذا الاختلاف في مقال يقرأه الناس، وأصعب من كل ذلك أن يكون موضوع الخلاف يدخل فيما يسميه المستشار البشري نوعا من أنواع التدخل المباشر في الشأن المصري وانتقاصا من الكرامة، فلا أتصور نفسي وأرجو الله ألا يجعلني ممن يؤيدون التدخل المباشر أو غير المباشر في الشأن المصري، ولا أن يجعلني من هؤلاء الذين يفكرون في الانتقاص من الكرامة، أو يتساهلون في الدفاع عن السيادة الوطنية.. وحصراً للخلاف أبادر فأقول: لا خلاف بيننا فيما هو مبدئي، وأن ما أسميه خلافا لا يتعدى ما هو عملي، وأنني لست من المطالبين بالتدخل الأجنبي ولا حتى بالرقابة الدولية على الانتخابات، وكل ما أطالب به هو ألا نعطي لأهل الحكم ما يريدون على طبق من ذهب، ودون أن نعمل الفكر في خطتهم المكشوفة! ونبدأ مع المستشار البشري الذي يتساءل: لماذا رقابة أجنبية على الانتخابات ولدينا قضاء مصري عادل؟ والإجابة المنطقية، مني ومن غيري، على مثل هذا التساؤل هي رفض الرقابة الدولية، فلسنا ممن يستبدلون إشراف القضاء المصري بإشراف دولي، ولا شك عندي في أن السيناريو الأكثر قبولا هو الذي يعطي القضاة الإشراف الكامل الذي طالبوا به على الانتخابات في مصر، ولكن ماذا لو عدلنا صيغة السؤال ليكون على الوجه التالي: لماذا نتبرع نحن برفض الرقابة الدولية، ولدينا حكومة متسلطة، وحكم بوليسي، ومجتمع مدني ضعيف، ورغبة جامحة في التمديد، وإعداد محموم للتوريث؟ فعلى أي وجه يمكن أن تكون الإجابة؟ وسؤال آخر: لماذا لا تظهر حساسية أهل الحكم من التدخل الأجنبي في الشأن المصري فقط إذا كان الشأن المتدخل فيه يحد من استباحتهم لحقوق هذا الشعب الذي يحكمونه بدولة البوليس وقانون الطواريء؟! ونحن لا نخالف المستشار البشري في أن الرقابة الدولية قد تعني تدخلا أمريكيا في الشأن المصري، ولكن هل يختلف سيادة المستشار معنا في أن التدخل الأمريكي في الشأن المصري قائم على قدم وساق وبرضا الحكومة وعلى عكس إرادة الشعب؟ ونحن نقر ونعترف ونردد وراء أستاذنا المستشار طارق البشري أن لدينا قضاء مصري عادل ونزيه، ولكنه يعرف ونحن نعرف والناس كلها تعرف أن هذا القضاء العادل والنزيه غير مستقل، وأكثر من ذلك فهو لا يُمَكَّن من الإشراف الكامل على الانتخابات، ونعرف جميعا أن الحكومات المصرية المتعاقبة طوال ربع قرن تماطل في إصدار قانون استقلال السلطة القضائية، فعلام نعتمد بديلا لرقابة دولية مادام القضاء الوطني هذه حالته، وهي معروفة للجميع، وأصحاب الشأن أنفسهم خرجوا إلى الناس يعلنون على الملأ أنهم لن يشرفوا على الانتخابات، ولن يكونوا شهود زور على تزويرها!! ولابد أن يستقر في وجداننا جميعا أنه بدون استقلال القضاء ومن غير إشرافهم الكامل والجدي على العملية الانتحابية من الألف إلى الياء لن يكون هناك أية وسيلة أخرى مقبولة غير الرقابة الدولية! ولابد أن نتفق أن الرقابة غير الإشراف، ولسنا نطالب بالإشراف، وكل ما نطالب به هو رقابة، ولست بوارد المطالبة برقابة أمريكية (أقصد أمريكا الرسمية) وكل ما أطالب به هو رقابة من المنظمات المعنية في أمريكا وأوروبا وآسيا... وأعود لأسأل من جديد: ما الذي يخسره المصريون من الرقابة الدولية على الانتخابات، خصوصا وان لدينا حكام لا يريدون فقط تزويرها لصالح حاكم بل ويريدون في الوقت نفسه إعداد المسرح السياسي لاستقبال نجله من بعده؟ وللأسف أقولها وقلبي يبكي دما أننا سنظل- جميعا- نغني أناشيد الاستقلال والسيادة ونعزف على وقع المزمار الحكومي معزوفة الرفض التام للتدخلات الدولية والأجنبية فيما هو شأن داخلي، وفي النهاية سترضخ الحكومة وسيوافق أهل الحكم على الرقابة الدولية بالشروط والمواصفات الأمريكية، ونخسر نحن في المعارضة فرصة قائمة لمقايضة أهل الحكم، ألا تطالب المعارضة بالرقابة الدولية، مقابل أن يعطى القضاء استقلاله وأن ُيمكَّن من الإشراف الكامل على الانتخابات. وأخشى أن يكتب التاريخ أن النخبة المصرية في أحزاب المعارضة وخارجها فوتت فرصة تاريخية سانحة للتغيير، وإنها لم تكن أكثر من مجرد شاهد زور على حفلة تمديد الرئاسة وتوريثها، وأنها جرت وراء أوهام عن السيادة والاستقلال، وتركت النظام الذي أضاع هذا الاستقلال ومرغ بهذه السيادة الأرض يفعل ما يشاء!! [email protected]