ذهبت السكرة وجاءت الفكرة. عندما مرت أيام شهر العسل التي عاشتها معًا القوى السياسية والوطنية في الميدان وحتى تنحي المخلوع وتحقق الهدف القومي الواحد الذي التفوا حوله ونسوا ما بينهم من خلافات فكرية وسياسية وعقدية وهو سقوط رأس النظام الذي ظلم الجميع ولم يفرق بينهم ولم يأبه لاختلافاتهم وبطش بهم جميعًا إبان عقود حكمه الكئيب. ومن اليوم الثاني ظهرت الخلافات التاريخية في كيفية التعامل مع مرحلة ما بعد سقوط رأس النظام!؟. بل وبدأت موجة مرعبة تلتها موجات من التحريض والتحريش لدرجة التخوين لبعضهم البعض!؟. حتى تفاقمت حالة الاستقطاب الشديد وانقسام القوى الذي بدأت بذوره في الاستعداد للتصويت على الإعلان الدستوري ثم انتخابات الرئاسة وبلغت عنفوانها وذروتها في التصويت على الاستفتاء على الدستور!؟. فكأنها كانت جميعًا في سكرة الهدف القومي الواحد؛ وكأنه جسد واحد يعاني من أمراض كثيرة ولكنه احتملها أمام مرض عضال هدده فهانت أمامه كل الآلام الأخرى. فلما زال؛ ظهرت على السطح كل الآلام التي أنسيت أو تناست. عودة للجذور: إنها كما يقولون في المثل؛ كل شيء يعود إلى أصله. فكل إنسان يعود في حالته الطبيعية إلى الأفكار التي تربى عليها وكونت القناعات الداخلية في عقله الباطن. ولهذا تكون سلوكياته مجرد ترجمه لما يحمله من أفكار داخله. فالفكرة هي التي تميز الإنسان، عن سائر الخلائق. حيث جاءت نعمة النطق والفكر، أو معرفة الخير والشر، في المرتبة الثالثة في النعم التي امتن بها الحق سبحانه على البشر، بعد نعمتي القرآن والخلق: "الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ". [الرحمن 1-4] فالفكرة هي التي تحدد نوعية السلوك البشري؛ لأن سلوك أي فرد، أو جماعة، أو أمة من الأمم؛ ما هو إلا ترجمة دقيقة وصحيحة للأفكار التي تحركهم. سلوكياتهم تفضح أفكارهم: لذا فإننا يمكننا الحكم على الأفكار الدفينة والخلفية الثقافية لأي فرد أو جماعة أو حزب بناءً على سلوكياتهم التي نراها أمامنا ومن كلماتهم التي تحدد وجهتهم وقناعاتهم الداخلية. ولهذا كان القرآن الكريم يضع لنا مقياسًا لكشف نيات المنافقين وذوي النوايا الخبيثة من زلات لسانهم: "وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ". [محمد30] وهذا خطاب للحبيب صلى الله عليه وسلم؛ أي ولو نشاء لأريناك أشخاصهم, فلعرفتهم بعلامات ظاهرة فيهم, ولتعرفنَّهم فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. والله تعالى لا تخفى عليه أعمال مَن أطاعه ولا أعمال من عصاه, وسيجازي كلًا بما يستحق. فلا نستغرب من يتحايل على نواياه العلمانية المضادة للإسلام تحت ستار الأفكار الليبرالية أو الدولة المدنية. ومن يتميز غيظًا نصرة لليهود وحقهم في حقيقة (الهولوكوست)؛ ولكنه يغض الطرف عما يمس الإسلام ونصرة أهله ومنهجه. ومن يتعالى على البسطاء ويدعو لتهميشهم سياسيًا، ويروج أدبيًا وفكريًا للأفكار الإباحية وأن المجتمع كله يتمرغ على أسرة الرذيلة. ومن يحاول إبراز كل ما يهين الإسلام والملسمين بحجة حرية الإعلام وكشف الحقيقة أو بحجة احترام الرأي المخالف حتى ولو أساء إلى ديننا ومقدساتنا وأعرافنا المحافظة وثوابتنا العقدية. والأمثلة كثيرة؛ ولكننا نؤكد أنهم عمومًا يجمعهم منهج هدام معاند؛ وهو نفس منهج الزعيم اليهودي (حُيَيّْ بِنْ أَخْطَبْ) الذي كان يعلم بصدقه صلى الله عليه وسلم؛ ولكن أعلن جحودًا وبعناد مدمر: (عداوته والله ما بقيت)!؟. فمن أنبأك أن أباك ديب؟: وهذا يذكرنا بالقصة الطريفة؛ التي تقرر أن الأصل غالب، وأن طباع السوء لن يصلحها أي إحسان إلى صاحبها. فالحية إذا أحسنت إليها؛ فإنها ستلدغك حيثما وجدت الدفء الذي ينشطها ضدك. وأن الذئب سيظل ذئبًا؛ ولو ربيته على المعروف. حيث روى الأصمعي؛ فقال: دخلت البادية فإذا أنا بعجوز وبين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب مقفى فنظرت إليها فقالت: أو يعجبك هذا؟. قلت: بلى؛ وما قصتك؟. قالت: أعلم أن هذا جرو ذئب قد أخذناه فأدخلناه بيتنا فلما كبر قتل شاتنا!؟. فقلت: أو قلت في ذلك شعرًا. قالت: بلى؛ ثم أنشأت تقول: بقرت شويهتي وفجعت قلبي ... وأنت لشاتنا ولد ربيب غذيت بدرها ونشأت معها ... فمن أنباك أن أباك ذيب إذا كان الطباع طباع سوء ... فلا أدب يفيد ولا أديب د. حمدى شعيب زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS) عضو رابطة الأدب الإسلامى العالمية E-Mail: [email protected]