ما أثير بشأن اليهود المصريين عقب تصريحات الدكتور عصام العريان المطالبة بعودتهم، والتصريحات التى سبقتها بثلاثة أشهر على لسان رئيس وزرائها، نتنياهو، المطالبة بحقوقهم، لاشك أنه فتح بابًا كبيرًا من الجدل حول إمكانية عودتهم وإثبات حقوقهم وتعويضاتهم. وعلى هذا وجب علينا توضيح بعض الإشكاليات المتعلقة بتاريخ وجودهم فى مصر ورحيلهم عنها فى هذا المقال. ومطالب العودة وأسبابها وخلفياتها ومدى إمكانياتها فى مقال لاحق بمشيئة الله. فحسب ما تقول به المصادر الرسمية ووثائق الحاخامية المصرية فإن غالبية اليهود المصريين من الطائفة الإسرائيلية، الذين يؤمنون بالأسفار ال39 والتلمود. وهناك قلة من طائفة القرائيين، وهم أقدم عناصر اليهود فى مصر ويؤمنون بالتوراة. بلغ عدد اليهود حسب إحصاء تعداد النفوس سنة 1848 حوالى 7 آلاف نسمة. لكن مع الفرص التى أتاحها محمد على وأسرته للأجانب بصفة عامة، ارتفع عددهم إلى ما بين 70 و100 ألف يهودي في أقصى تقدير وصلوا إليه فى أربعينيات القرن العشرين، منهم 5 آلاف من القرائيين فقط. توزعوا على محافظات مصر المختلفة، فسكنوا القاهرة والإسكندرية وبني سويف والمنيا والفيوم. وعاشوا أعدادًا كبيرة فى القاهرة، فى حى الجمالية وحارة اليهود بالموسكى وحى الزيتون والظاهر والوايلى وقصر النيل. ولما كانت أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته قد شهدت تصاعدًا فى القوة السياسية والاقتصادية والدينية لهم، كان من الطبيعى أن يسعى هذا المقال للتعرف على تلك الفترة لاكتشاف أسباب هذا التصاعد وعلاقته بالإشكاليات المتعددة التى تثار الآن. كإشكالية الرحيل، والعلاقة مع المشروع الصهيونى، إلى غير ذلك من إشكاليات مازالت محل خلاف وجدل، ولم يحسم الأمر بشأنها. فقد تمتع يهود مصر بالحرية الكاملة فى ممارسة نشاطهم الدينى داخل معابدهم المنتشرة فى الأماكن التى يقطنونها. فاحتفلوا بأعيادهم الدينية، كعيد شبوعوت والفصح والنور والفطير وبوريم. وكانت رئاستهم الدينية تمارس اختصاصاتها فى عقد الزواج والموهيل والحزان والشحيطاه وتعليم الأولاد وخلاف ذلك، بكل حرية. وكان نشاط اليهود الاقتصادى الداخلى والخارجى مميزًا، فلا توجد أى قيود على أنشطتهم المختلفة. فملكوا الشركات والبنوك والمحلات التجارية الكبرى والمؤسسات. واستطاعوا تحقيق ثروات كبيرة من خلال استثمارهم الكبيرة فى شتى المجالات، ومن خلال علاقتهم بعناصر الاحتلال البريطانى، وعبر انتشار متاجرهم فى كل المدن الرئيسية. وعلى هذا فإن النظر لوثائق حاخامية الطائفة الإسرائيلية بمصر بشكل عام، وعلى أرشيف وزارة الخارجية المصرية بشكل خاص، فإننا نتحصل على معلومات وتحليلات فى غاية الأهمية عن يهود مصر. تشرح لنا الدور الذى لعبوه فى دعم المشروع الصهيونى وتؤكده. فكانت الزيارات المتكررة لقياداتهم الدينية لفلسطين قبل إعلان دولة إسرائيل هدفها التأكيد على الحق اليهودى فيها، والتنسيق بين اليهود فى مصر وفلسطين على دعم المشروع الصهيونى. بل لم يتوقف الأمر على القيادات الدينية، حيث شاركت فئات عديدة من صفوتهم فى هذا الأمر. ولعل الأدوار التى لعبها عزرا روديج وسلفاتور شيكوريل ورفائيل عدس وآخرون تحت غطاء الاهتمام التجارى، وعلاقتهم بيهود أمريكا وفرنسا وبريطانيا والحبشة وأسمرة، وإصرار أنديتهم على ترديد النشيد القومى لإسرائيل "افرحي يا أم إسرائيل" فى حفلاتهم ومناسباتهم المختلفة، تؤكد أن الصفوة اليهودية المصرية هى التى تولت عملية المناصرة للصهيونية وإسرائيل. بل إن متابعة إدارة المخابرات والخارجية المصرية لهذه المناصرة، ورصدها فى وثائق لا حصر لها، تعد خير دليل عليها. بالرغم من محاولة تلك الصفوة التبرؤ من تلك المساندة لإسرائيل خلال حرب السويس. وفيما يتعلق بأسباب الرحيل عن مصر واشكالياته، فقد تعددت الأسباب وتضاربت بشأنه، بصورة محيرة ومشتته. فلم تكن حرب السويس هى السبب الرئيسى فى رحيلهم فقط، بل تقطع كل الوثائق والتقارير بأن هذا الرحيل قد بدأ فى فترات سابقة. وأن بلدانًا أخرى، كقبرص وإيطاليا وتركيا والسودان وأثيوبيا، اُستغلت كنقطة انطلاق لهجرتهم لإسرائيل، أو باتت، كفرنسا وإنجلترا وأمريكا، محلًا لإقامتهم. ولعل التقرير المرفوع من ضابط مصلحة الهجرة والجوازات فى 29 أبريل 1954، والذى يشير لشكوى اليهود المقيمين بمصر من اشتراط إلغاء إقامتهم الممنوحة لهم على جوازاتهم عند تقدمهم للسفر إلى الخارج، وطلبهم بعدم الإلغاء، يعد خير دليل على القيود التى وضعتها السلطات المصرية لتعطيل عمليات الرحيل المتكررة. ولاشك أن قضايا التجسس وتخريب المنشآت، عملية سوزانا على سبيل المثال، والحروب المتكررة بين مصر وإسرائيل بين عامى 1948 – 1956، ثم التأميمات التى فرضها عبد الناصر، قد لعبت دورًا مهمًا فى عمليات الرحيل الجماعى لهم. لينخفض عددهم إلى 3500 يهودى فقط، حسب إحصاء سنة 1966. بل ليتلاشى عددهم ويقل لبضع مئات بعد حرب 1967. ومن ثم فإن موضوع الطرد الجماعى لهم فى فترة عبد الناصر، أو الحديث عن إجبارهم على الرحيل بالتخويف والإرهاب والتهديد، لم يقم عليه الدليل حتى الآن. حيث يقتصر الأمر على روايات شفهية متناثرة لا سند لها ولا حجة. فكثير من اليهود الذين رحلوا عن مصر قد باعوا أملاكهم برغبتهم، ورحلوا بسبب تخوفاتهم من ردة الفعل الشعبية على خسائر مصر البشرية والاقتصادية الكبيرة فى حربى 48 و56. وللحديث بقية فى مقالنا المقبل بمشيئة الله. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.