حرصت كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية أمريكا، في المحاضرة التي ألقتها بالجامعة الأمريكية في القاهرة يوم الثلاثاء قبل الماضي على تأكيد أولوية الحرية والديمقراطية على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. قالت رايس إن الولاياتالمتحدة سعت على مدى ستين عاما إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة على حساب الديمقراطية، وأسفر الحال عن عدم إنجاز أي منهما، والآن قررت واشنطن أن تتبنى نهجا مختلفا. أضافت رايس أن “هناك من يقول إن الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة على حد قولها أن العكس هو الصحيح.. إن الحرية والديمقراطية تشكلان الفكر الوحيد الذي يملك قوة التغلب على الكراهية والانقسام والعنف”. إن رايس تطرح “الاستقرار” على أنه “نقيض الديمقراطية”.. وهذه مقولة تختلف حولها الآراء.. فقد تكون الديمقراطية، بمقتضى تعريف مصحح، من شأنه ترسيخ الاستقرار، لتلبيته مطالب الناس، وبالتالي الحد من حدة التوتر.. والعكس أيضا وارد.. أي أن يكون عدم الاستقرار تعبيرا عن مجتمع يغلي، في حالة ثورة، وتشتد فيه الصراعات وتتصاعد.. ومن خلالها تتسع الحريات، وتزدهر الديمقراطية. ولكن إذا غضضنا النظر عن الاختلافات في الرأي، فثمة أسئلة تفرض نفسها فرضا، منها على سبيل المثال: كيف الجمع بين الديمقراطية وسجن جوانتانامو القائم على أن هناك نوعية “شريرة” من البشر لا ينبغي أن يحميهم أي قانون، وأن التعذيب منظور إليه على أنه ضرورة لا غنى عنها في عصر أصبح سلاح الإرهاب فيه قوة لا تكاد تقهر، فهذه إشكالية لا حل لها. ثم كيف النظر إلى سجن “أبو غريب” الذي لم يكن قائما على التعذيب البدني لسجنائه وحسب، وإنما أيضا على تعذيبهم المعنوي، وعلى إهدار آدميتهم، وتحميلهم ما لا يحتمل، وهذا لم يكن مقصورا على جانب دون آخر، ألم ينتشر في مصر، في وقت من الأوقات، شعار أن “القانون في إجازة!”. ثم ماذا عن الشعب الفلسطيني؟ هل من الممكن القول بأن حقوقه وآدميته محمية على أي نحو؟ وما مصير الشعب العراقي، بل وغيره من شعوب المنطقة؟ ما مصير الصراعات الطائفية التي تهدد بإشعال مصادمات غير مسبوقة؟ لقد قالت رايس في محاضرتها إن الصراع الجاري في المنطقة ليس صراعا ضد الإرهاب وإنما هو صراع من أجل الديمقراطية، وهذا الوصف إنما من شأنه تجميل الشعار، وإعطاء الانطباع عن واقع يخالف تماما الواقع الحقيقي. ففي 11 سبتمبر/ ايلول ،2001 برزت حقيقة أن عملية كبيرة كضرب برجي مركز التجارة الدولية في نيويورك، في وقت واحد مع ضرب وزارة الدفاع البنتاجون في واشنطن، أمر أصبح من الممكن حدوثه، ووارد أن يتكرر.. ولا علاج جذريا له. إن الجديد هو بروز واقع لا يقهر إلا عن طريق تلبية مطالب معينة، على سبيل المثال، لا سبيل لإغفال الأثر المدمر لأسلحة الدمار الشامل إلا بخلق مناخ اجتماعي وسياسي يحول دون ظهور حوافز ومغريات لصنعها، ولا سبيل للقضاء على الإرهاب إلا بإقامة نظام دولي ليس لمصلحة أحد فيه اللجوء إلى ممارسة أعمال إرهابية، وهذا حتى يتحقق لابد من إقامة نظام دولي يختلف نوعيا عن النظام القائم الآن. لقد أصبحنا في حقبة تاريخية جديدة حقبة ما بعد 11 سبتمبر تحكمها ممكنات لم تكن مطروحة من قبل، ومن هنا، لم يعد الشرق الأوسط من الجائز النظر إليه على أنه قطاع العالم الذي يختزن في أعماقه أهم مستودعات البترول على اتساع الكوكب.. بل أصبح منطقة ينبغي أن تتحقق لها تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وحضارية تؤمنها في وجه عواصف مجتمعية تنال من استقرار العالم في عصر العولمة، لا في الشرق الأوسط وحده، بل على اتساع عالمنا “المعولم” كله. لم يعد كافيا نبذ الاستقرار بدعوى أنه مازال متعثرا في تحقيق الديمقراطية، بل الأخطر هو اعتبار الديمقراطية مبررا لحملات عدائية، بالغة القسوة كما هو واضح أيضا مما يجري في العراق الآن.. وكما هو وارد أن يحدث في حالة اندلاع حرب مع إيران مثلا، والأمر ليس مستبعدا مع انتقال السلطة إلى رئيس متشدد.. لقد رأينا كيف انقسمت الدول الأوروبية حيال الموقف من الحرب على العراق.. هل من الممكن تجنب تكرار السيناريو نفسه لو تجددت الحرب في المنطقة؟ إن النظام الدولي القائم الآن يفضل تصفية بل وربما حتى إبادة قطاعات من العالم الفقير على أن يقدم على ضمان رفاهية البشرية بوصفها كلا لا يتجزأ، ولذلك فإن النظام القائم ليس ضد الحرب، ولا هو ضد العنصرية، ولا هو ضد الظلم، ومع بقاء النزاعات قائمة، واستمرار التوتر والمواجهات!.. إن تعريف الديمقراطية على النحو الذي تبنته رايس مسألة محورية في تقرير مجريات الأمور في قرننا الحادي والعشرين، ومسألة بحاجة إلى مناقشة جادة ومتعمقة على صعيد المجتمع العالمي بأسره، قبل أن تنفرد دول بعينها لوضعه موضع التنفيذ. ---- صحيفة الخليج الاماراتية في 30 -6 -2005