ربما يتذكر جيل أكبر، من المصريين المعاصرين ممن هم فوق الخامسة والأربعين، رئيسنا الراحل أنور السادات الذي أدى لمصر والعرب خدمات جليلة، جعلته يستحق عن جدارة وصف "بطل الحرب والسلام". لقد كان بطل حرب أكتوبر المجيدة التي أعادت لمصر والعرب الإحساس بالكرامة، بعد ست سنوات من إهدار هذه الكرامة على رمال سيناء، ومرتفعات الجولان، وباحة المسجد الأقصى. كذلك هو بطل السلام، بمبادرته الجريئة التي فتحت بوابات التسوية العادلة لصراع المائة عام بين العرب واليهود. لقد عارضت الرئيس السادات في حياته، حينما كان يملك لي النفع والضرر. ولكني أنصفت الرجل بعد عشر سنوات من اغتياله، أي عام 1991، بكتاب عنه. وحيث لم يكن يملك لي، أو لغيري، نفعاً أو ضرراً. وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب بعنوان "رد الاعتبار لأنور السادات" عن دار الشروق، ثم أعاد مركز ابن خلدون، ودار قباء إصدار طبعات أخرى منه في السنوات العشر التالية. ومناسبة هذه المقدمة لمقالنا، هو أنني وجيلي نتذكر كيف كان يحلو للسادات الترحم على سلفه "جمال الله يرحمه"، أو "عبد الناصر الله يرحمه". لقد كانت العبارة تنطق بلهجة لا توحي للسامعين بأنها دعاء صادق مخلص على الطريقة التي يردد بها البعض عبارة "إن شاء الله"، بلهجة مستخفة، أقرب إلى ما تعنيه عبارة شعبية أخرى "في المشمش". من ذلك ما سمعناه طوال الأسابيع الأخيرة من الرئيس حسني مبارك حول أزمة القضاة ومحنة القضاء في مصر، فقد دأب الرئيس على ترديد عبارة أنه "لا يتدخل في شئون القضاء"، أو "على القضاة أن يحلًوا مشكلاتهم الداخلية بأنفسهم.." يقول ذلك أو عبارات أخرى بنفس المعنى، وكأنه مسكين، لا ذنب له في المشكلة. يقول ذلك وكأنه لم يعين وزير العدل الحالي، الذي هو جزء من السلطة التنفيذية؟ وكأن هذا الأخير لم يأخذ الضوء الأخضر، إن لم يكن الأمر المباشر من الرئيس شخصياً قبل إحالة المستشارين الجليلين، محمود مكي وهشام البسطويسي، إلى محاكمة تأديبية. يقول الرئيس ذلك وكأنه غير مسئول عن تجميد مشروع قانون استقلال السلطة القضائية لأكثر من خمسة عشر عاماً، رغم وعوده المتكررة، والتي بدأت في مؤتمر العدالة، الأول عام 1986 أي قبل عشرين عاماً وكان أخرها أثناء حملته الانتخابية لرئاسة خامسة، في خريف العام الماضي (2005). هذا هو الرئيس المتأني لدرجة التلكؤ المقصود، لأكثر من خمسة عشر سنة، هو نفسه الذي دفع بتعديل دستوري أي أهم من أي قانون في أقل من خمسة شهور (بين 28 فبراير و 25 مايو 2005)، فسبحان مغير السرعات، من السلحفاة الرئاسية إلى الصاروخ الرئاسي! يمكن للرئيس جرياً على تقليد "جمال الله يرحمه"، أو "على القضاة أن يحلوا مشكلاتهم الداخلية بأنفسهم"، أن يلوم الرئيس مبارك مجلس الشعب على التأجيل، حيث لو كان الأمر بيد الرئيس وحده، لما قصّر أو تأخر، والله العظيم! أي فليحل القضاة مشكلاتهم مع مجلس الشعب. فهذا الأخير هو "سيد قراره". لقد أصبح تكرار هذه الادعاءات تقليداً راسخاً في عهد مبارك الميمون، وتابعه أحمد فتحي سرور. لقد وقعت خلال نفس السنة التي تم فيها التعديل المشوه للمادة 76 من الدستور، وتفاقمت فيها أزمة القضاة ونادي القضاء، القبض على د. أيمن نور، عضو مجلس الشعب (عن دائرة باب الشعرية)، ورئيس حزب الغد. وكانت السرعة المتناهية التي تم بها طلب رفع الحصانة البرلمانية، ثم النظر في الطلب وإقراره، في أقل من 24 ساعة، ثم إلقاء القبض عليه في غضون دقائق من انتهاء جلسة مجلس الشعب التي رفعت فيها الحصانة، وبعد خطوات من خروجه من مبنى المجلس، وفي الشارع في وضح النهار، وعلى مرأى من آلاف المارة في تلك المنطقة المزدحمة وسط القاهرة! مما أوحى للناس أن هناك أموراً خطيرة قد وقعت أو وشيكة الوقوع. من ذلك أن يكون حرباً، أو سراً حربياً، أو خيانة عظمى، أو جريمة قتل قد وقعت، أو أن الرجل يحمل في جيوبه أو حقيبته مخدرات أو مواد مشعة أو مستندات تمس الأمن القومي ويقتضي الأمر القبض عليه فوراً، أي وهو "في حالة تلبس..." طبعاً اتضح لأيمن نور وللرأي العام في الداخل والخارج أن السبب المعلن لهذه الدراما المثيرة هو سبب هزيل، يقع مثله بالآلاف كل يوم وهو الادعاء بالتزوير في أوراق، قدمت لجهة رسمية للحصول على رخصة لحزب الغد، الذي أسسه ايمن نور، بموافقة هذه الجهة (لجنة الأحزاب) قبل أربعة شهور (أكتوبر 2004). المهم قليلون في الداخل والخارج هم الذين صدقوا هذا السبب الهزيل. فمن ناحية تأخذ لجنة الأحزاب ما بين سنة وعشر سنوات، لفحص الأوراق التي يتقدم بها طالبوا الترخيص بما في ذلك برنامج الحزب، وصحة الإقرارات الخاصة بهم. وهذه هي المرة الأولى، وربما الأخيرة خلال ثلاثين عاماً هو عمر اللجنة وعمر التجربة الحزبية الحالية، التي يثار فيها موضوع تزوير توقيعات بالنسبة لأي من الأحزاب العشرين التي وافقت عليها اللجنة، أو الخمسين حزباً التي رفضتهم ومن ناحية ثانية كان يمكن إلغاء الترخيص بقيام حزب الغد، عملاً بالقاعدة القانونية "أن ما يبنى على باطل، فهو باطل"، على فرض أن توقيعات المؤسسين"مزورة". أي أن الأمر في أسوأ الأحوال، وعلى افتراض صحته ووقوعه ومسئولية أيمن نور عنه، لم يكن يستحق هذه المهزلة، أو إلقاء القبض على الرجل بهذه الطريقة. لذلك لا يلام معظم الناس في الداخل والخارج للصدمة عدم تصديق الرواية الرسمية لحكومة الرئيس محمد حسني مبارك. ولا يلام الناس على سعيهم للبحث والتأمل والتخمين حول الأسباب الحقيقية للقبض على أيمن نور والتنكيل به على مرأى من الجماهير، كما لو كانت الرسالة هي أن يجعل منه النظام "أُسوة للآخرين من أمثاله". لذلك أيضاً تعاطف الناس مع أيمن نور في مواجهة النظام. وتعاطفوا أيضاً مع القضاة، الذين يريدون استقلالهم في مواجهة السلطة التنفيذية التي يتربع حسني مبارك على قمتها منذ ربع قرن. وتعاطفوا مع الصحفيين في مطلبهم الخاص بإلغاء عقوبة حبس الصحفيين في مخالفات وجرائم النشر والاكتفاء بتوقيع عقوبات أخرى مثل الغرامة والمصادرة وإيقاف صدور الصحيفة أو المطبوعة، أو حتى سحب ترخيصها. تعاطف الناس أيضاً مع المهندسين، الذين تعرضت نقابتهم لفرض الحراسة، منذ عدة سنوات، دون أسباب مفهومة من مهندسي مصر، الذين يتجاوز عددهم المائتي ألف. وقد فعل نظام الرئيس مبارك ذلك مستعيناً بالقانون رقم 100 للنقابات المهنية، الذي يعطي السلطة التنفيذية (جهة الإدارة) في ظل ظروف استثنائية مثل المخالفات الجسيمة أو الصراعات الحادة التدخل وتعيين حارس مؤقت إلى أن تنصلح الأحوال. ولكن الحكومة استمرأت هذه الرخصة للانقضاض على نقابة المهندسين العتيدة للسيطرة على مقدراتها، ولا تستجيب لطلباتهم المتكررة بالدعوة إلى جمعية عمومية، لانتخاب مجلس إدارة جديد، يتسلم النقابة ويدير شئونها كما جرت العادة. وقرأنا أن المهندسين اضطروا لمحاولة عقد جمعية عمومية، على الرصيف أمام مبنى نقابتهم بشارع رمسيس، قبل أسبوع. ولكن جحافل الأمن المركزي فرقت جموع المهندسين بنفس الطريقة الشرسة، التي دأبت الحكومة مع أي تجمع شعبي، أو مظاهرة سلمية، كما شهدنا منذ مظاهرات 25 مايو 2005، والتي انتهكت فيها أعراض المتظاهرات، وهو ما أثار اشمئزاز واحتجاج دوائر واسعة في الداخل والخارج. وهكذا نرى كل الفئات المهنية الرئيسية في حالة سخط على نظام الرئيس مبارك. وقد رأينا مظاهرات التعبير عن هذا السخط، لا فقط بين القضاة والصحفيين والمهندسين، ولكن أيضاً بين أساتذة الجامعات والمحامين والأطباء، فضلاً عن الطلبة والعمال. وكان التضامن الواسع لكل هذه الفئات مع القضاة هو تلخيص وتكثيف لهذا السخط العام. وقد حاول النظام أن يكسر هذا الإجماع الشعبي على رفضه، بالعنف تارة، وبإشاعة أن الإخوان المسلمين هي المحرك الرئيسي لكل هذه المظاهرات تارة أخرى، أو بالتراجع التكتيكي تارة ثالثة، ثم الانقضاض الانتقائي مرة رابعة. وقد رأينا نماذج لهذا كله خلال شهر مايو 2006. ففي الوقت الذي استخدم فيه النظام أسلحة البطش والتنكيل مع المتضامنين مع القضاة والمهندسين، فقد تراجع تكتيكياً في المحاكمة التأديبية للمستشارين محمود مكي (براءة) وهشام البسطويسي (لوم) إلا أنه في نفس اليوم رفض الطعن بنقض الحكم ضد د. أيمن نور. وهو ما يعني حرمان الرجل من حقوقه السياسية إلى عام 2016، أي إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية القادمة (2011)، والتي يذهب كثيرون إلى أن ذلك كان الهدف منذ البداية، وحتى تخلو الساحة من أي منافس حقيقي. أكثر من ذلك لاحظ المراقبون أن نظام الرئيس مبارك، بما في ذلك أجهزته الأمنية والإعلامية، يتعمدون تدمير كل البدائل الإيجابية المعتدلة، بحيث لا يظل على الساحة إلا هم من ناحية، والإخوان المسلمون من ناحية أخرى. وبالتالي لا يكون أمام الطبقة الوسطى، ورجال الأعمال، والأقباط، والعالم الخارجي إلا اختيارهم، مهما كانت أخطائهم أو خطاياهم. من ذلك أنه في عدد واحد من أحد مجلات النظام امتلأت الصفحات بالهجوم على القضاة، وعلى أيمن نور، وعلى الداعية الشاب عمرو خالد، على الإخوان المسلمين والسعودية، وربط هؤلاء جميعاً بالبعبع الأمريكي. إن حملات النظام وعملائه على كل البدائل جعله يرتكب من المهازل والمخازي ما يضحك أحياناً ومن المآسي ما يبكي في كل الأحيان. فلا حول ولا قوة إلا بالله.