ترجع أهمية وجود نقابة للعاملين إلى أن العامل هو الأكثر إدراكًا لاحتياجاته ومتطلباته، ومهما كان رئيس العمل طيب القلب عطوفًا وحريصًا على راحة العاملين فلن يكون قادرًا على الإلمام بكل متطلبات بيئة العمل، والنظر من نفس الزاوية التى ينظر منها العامل لذا فإن تشكيل نقابة ممثلة للعاملين يعد ضرورةً لا يلغيها عدل الجهة المشغلة أو جورها، والنقابة ليس بالضرورة أن تكون فى موقع المخاصمة والمعاداة للجهة المشغلة بل إن التوصيف الأكثر دقةً لدورها هو التكامل مع أرباب العمل ومساعدتهم فى الارتقاء بواقع المؤسسة، والمسئول الحريص على الارتقاء بمؤسسته يعنيه الاستماع لوجهة نظر العاملين، ويهمه قياس انعكاس أى قرار على هؤلاء العاملين، وهذا ما يوفره وجود نقابة تعبر عن العاملين تعبيرًا حقيقيًا، فيكون الاجتماع مع هذه النقابة بشكل دورى للاستماع لوجهات نظر العاملين ولمقترحاتهم من أجل تحقيق الرضا الوظيفى لدى العاملين، وهو ما سينعكس بالضرورة على المؤسسة إيجابًا، لأن العامل المنسجم مع بيئة عمله هو الأكثر إبداعًا وإنجازًا فيها. وجود النقابة يشكل ضمانةً لتحقيق قدر أكبر من العدالة والنزاهة لأن وجود نقابة قوية يمنع جهة العمل من التعامل مع العاملين بأنهم آلات إنتاج بل إنها ستكون ملزمةً للنظر إليهم بأنهم بشر لديهم أفكارهم وهمومهم وتطلعاتهم، وهم فى النهاية يستطيعون تشكيل قوة ضاغطة لإلزام المسئولين بالتزام طريق النزاهة والعدالة.. لا يكفى أن تكون هناك نقابة للعاملين وحسب، أقول هذا لأن كثيرًا من المؤسسات العربية لديها شكل نقابات وانتخابات وديمقراطية، لكنها تتعامل مع هذه الأفكار التى أنضجتها البشرية بعد تاريخ من المعاناة والتضحيات بأنها ديكور تجميلى، فربما كانت هناك نقابات عمالية لكنها ذات وظيفة ديكورية أكثر من كونها ذات دور حقيقى مؤثر، فلا يسمح لهذه النقابات أن تمارس ضغطًا على جهة العمل، لذا يشوب عملية اختيار أعضاء النقابات الكثير من التلوث وشراء الولاءات وضمان اختيارهم من ضعفاء النفوس الذين لا يقوون على مواجهة سلطة العمل والمناداة بقوة بحقوق العاملين.. إن أى تدخل من أى نوع من قبل سلطة العمل فى اختيار أعضاء النقابات يفقد هذه النقابات أهميتها، فالنقابة كى تمارس دورها الحقيقى يجب أن يتم اختيار أعضائها بشكل حر ومباشر من قبل العاملين فى المؤسسة، وأن يملك العاملون إسقاط تمثيلهم فى الوقت الذى يتقاعس فيه هؤلاء عن دورهم فى تمثيل حقوق العاملين. أما سبب تخصيصى فى العنوان الحركة الإسلامية وعلاقتها بالفكر النقابى فهو أولًا أننى أنتمى للحركة الإسلامية، ومن الواجب الذى يحتمه على انتمائى إليها هو طرح أى أفكار أرى أنها تفيدها، ثانيًا فإن الحركة الإسلامية لا يزال يغلب على رؤيتها للأمور جانب الولاء والثقة الإخوانية أكثر من اعتبارات تأسيس مجتمع على أسس حضارية واجتماعية سليمة، والتفكير بطريقة "هؤلاء إخواننا نثق بهم" ربما يصلح فى مراحل الاستضعاف التى تحتاج إلى مشاعر دافئة، لكن هذا التفكير لا يصلح لتولى زمام السلطة وتقديم نموذج حضارى يحقق العدالة ويقيم المجتمع على أسس سليمة، هذا التفكير ترك آثارًا سلبيةً فى أداء الحركة الإسلامية فى العمل المؤسساتى والحكومى، فمن يفكر بهذه الطريقة ينظر إلى المسئول بأنه أخ، وما دام أخًا فلا يجوز التعامل معه بندية إنما وفق مبدأ الثقة، وإن أخطأ هذا الأخ وجب نصيحته بالسر وليس أكثر من هذا.. هذا التفكير كارثى لأنه يخلط بين المشاعر الإخوانية وبين أسس العمل المؤسساتى السليم، فتصير آليات المراجعة والشفافية والنزاهة وكأنها نقيض للمشاعر الإخوانية.. إن معادلة العمل المؤسسى تقوم على المثل القائل "حرص ولا تخون" فكونى أحتفظ بمشاعر إخوانية تجاه المسئول لا يمنع من وجود آليات للرقابة ومنع هذا المسئول من احتمال أن تضعف نفسه أو يغلبه قصوره البشرى، وتبقى المشاعر الإخوانية قائمةً بعد ذلك، بل إن أجواء الشفافية والنزاهة تعزز هذه المشاعر ولا تنتقص منها. إن كون المسئول "من إخواننا الثقات" لا ينفى أنه صار فى موقع المسئولية العامة وبالتالى فمن حقى كعامل فى موقع العمل أن أطالبه بحقوقى وأن أحميه من ضعفه البشرى عبر مراقبته وأن أكون عونًا له فى الارتقاء بواقع المؤسسة عبر تبادل الأدوار فهو يرى المؤسسة من زاوية المسئول وأنا أراها من زاوية العامل، لذا يكمل أحدنا الآخر. لقد أثبت التفكير بطريقة "هؤلاء إخواننا" فشلًا ذريعًا فى جانب الإدارة، فهم إخواننا على العين والرأس، ولكن فى ميدان الإدارة فالعلاقة بين العامل والمسئول هى علاقة بين طرفين مختلفين، وليس علاقةً مع الذات، والعلاقة مع طرفين مختلفين تقتضى محاورةً أحيانًا ومواجهةً ومطالبةً فى أحيان أخرى.. التفكير بطريقة "إخواننا" أفرز نتائج سلبيةً على واقع العمل المؤسسى فبحجة أن المسئول من الإخوة الثقات مُنع توجيه أى نقد إليه، وصار النظر إلى أى تهامس بين العاملين حول أخطاء إدارية ينظر إليه نظرة تشكيك وتخوين، وفى ظل الصمت وغياب رقابة القاعدة العمالية تفاقمت الأخطاء الإدارية وتكاثرت.. لقد استفادت الحركة الإسلامية من النقابات فى مواجهة خصومها السياسيين، فاستغلت هذا الهامش فى تكوين هيئات معارضة فى مختلف المؤسسات والمهن للضغط على أصحاب السلطة والنفوذ وانتزاع مكاسب منهم، وهذا حق طبيعى لا نجادل فيه، لكن من غير المقبول التعامل مع العمل النقابى بازدواجية فنقبله فى مرحلة من المراحل ثم إذا وصلنا إلى السلطة ضقنا ذرعًا به ونظرنا إلى أى هيئة معارضة نظرة تشكيك.. إن ذات الوسائل التى أعطينا لأنفسنا الحق فى استعمالها حين كان أصحاب السلطة من خصومنا الفكريين والسياسيين من حق الآخرين أن يستعملوها اليوم لمطالبتنا بحقوقهم بعد أن صرنا فى موقع السلطة والمسئولية، والفكر النقابى هو فكر ديناميكى لا يتوقف فى مرحلة من المراحل، وكما أنه أفادنا حين كنا معارضين، فإنه يفيدنا حتى بعد أن صرنا أصحاب السلطة فى كونه يردم الفجوة بين المسئول والرعية ويساعدنا فى الارتقاء بمؤسساتنا عبر تلبية احتياجات ومتطلبات العاملين. لا يجوز اللجوء إلى أى طرق التفافية بديلًا عن العمل النقابى، فقد حدث ذات مرة أن مجموعةً من العاملين فكروا فى إنشاء نقابة تعبر عنهم أمام جهة العمل، فلما عرف صاحب العمل بالخبر استدعاهم وقال لهم بلهجة أبوية حنونة: ما الداعى لإنشاء هذه النقابة ونحن إخوة؟؟ إذا كانت لديكم أية مطالب فأخبرونى وسأعمل جاهدًا على تنفيذها.. إن تصدر الحركة الإسلامية للمشهد السياسى فى الوطن العربى يفرض عليها تحديات بأن تتحرر من طريقة التفكير الأحادى وأن تجتهد أكثر فى ترسيخ أسس العمل الديمقراطى فى كل مؤسساتها، وأن تخلق الصوت الآخر وليس أن تحاربه، وحين تعمم الحركة الإسلامية على كل مؤسساتها بإنشاء نقابات تعبر بصدق عن العاملين فيها فإن وجود هذه النقابات يخدم الحركة الإسلامية ولا يزعجها، لأن تمثيل أصوات القاعدة العريضة من العاملين يساهم فى تعزيز النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد.. آمل أن تستمع الحركة الإسلامية لهذه النصيحة وأن تبادر لخطوة عملية باتخاذ قرار بتأسيس نقابات ممثلة للعاملين فى كل مؤسساتها.. والله الهادى إلى سواء السبيل.. [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]