أحد أكثر المداخل شيوعاً في متابعة التطور السياسي الذي يحدث في داخل بلد أو آخر هو أداء اللاعبين الرئيسيين. وهؤلاء هم في الغالب النخبة السياسية والثقافية في الحكم والمعارضة، وخصوصاً في البلاد التي تمر بمرحلة انتقال إلى الديموقراطية. ففي مثل هذه المرحلة تظل مشاركة الجمهور محدودة، ويتوقف ازدياد هذه المشاركة على التفاعلات السياسية الجديدة، وبالتالي على أداء الحكم والمعارضة. وينطبق ذلك على مصر التي دخلت بالفعل في مرحلة انتقال إلى الديموقراطية، كما على غيرها. ولكن أحد أهم محددات آفاق هذه المرحلة في مصر يتعلق بالمساحة الواسعة الفارغة الآن بين الحكومة وحزبها في جانب والمعارضة بأطيافها المختلفة في الجانب الآخر. وبالرغم من صعوبة بيان مدى اتساع هذه المساحة، ربما يفيد المشهد التالي في توضيح ذلك· في مساء يوم 29 حزيران (يونيو) الماضي، نظمت حركة «كفاية« تظاهرة في أحد ميادين منطقة شبرا المكتظة بالسكان، وخرج في الوقت والموقع نفسهما بعض عناصر الحزب الحاكم في تظاهرة مضادة، تبارى الفريقان في الهتاف، كل على رصيف في مواجهة بعضهما البعض. ما بين ثلاثمئة وأربعمئة على «رصيف المعارضة« انضم إليهم عشرات قليلة، وما بين مائة ومائتين على الرصيف المقابل، لم ينضم إليهم أحد تقريباً. وعلى مدى أكثر من ساعة، مر بين الفريقين - الرصيفين وأطل عليهما بمزيج من الدهشة والحيرة واللامبالاة آلاف المصريين في الميدان الواسع والشارعين الطويلين العريضين اللذين يتقاطعان عنده والشوارع الكثيرة التي تتفرع عنهما. هذا الميدان الواسع والشوارع الكبيرة والجماهير الغفيرة تمثل المساحة الخالية التي لا تنحاز إلى حكم أو معارضة. فلم يتمكن الحزب الحاكم من التقدم لشغل المساحة الواسعة الخالية أو قسم يعتد به فيها، لأنه مازال أسير ميراث التنظيم السياسي الواحد بذهنيته المغلقة وأفقه الضيق وأدواته السقيمة. كما عجزت المعارضة عن ملء هذه المساحة لاختلالات بنائية في تكوينها وعيوب وظيفية في أدائها. فالأحزاب التي يوجد أهمها منذ أكثر من ربع قرن أصبحت أقرب إلى هياكل عظمية، يعاني بعضها من أنيميا حادة وبعضها الآخر من حالة جفاف جماهيري، ولا تجد الدواء الضروري لإنقاذها. وحركة «الإخوان المسلمين»، الموجودة فعلياً على رغم نزع المشروعية عنها، تعاني من ضمور في العقل، يجعل جسدها المليء نسبياً في حالة حركة عشوائية ومرتبكة. أما حركات التغيير الجديدة التي نجحت في تحريك الساحة السياسية في مطلع العام الحالي فهي تعاني المشكلات المعتادة التي تقترن بحركات الرفض السياسي والاجتماعي، مضافاً إليها انصراف الناس وعزوفهم عن المشاركة من ناحية، وأمراض النخبة السياسية والثقافية من ناحية أخرى. وأهم هذه الأمراض احتكار الحقيقة، والنزعة الشخصانية التي تجعل الزعماء في كل حركة أكثر من الأعضاء، والعجز عن الحوار، وتقديس الشعارات، وافتقاد القدرة على العمل المشترك. فهذه نخبة تتكاثر حركاتها بطريقة «الدكاكين» الصغيرة، ولذلك فهي كثرة ضعف لا قوة. ولذلك كله لم تستطع هذه الحركات، مثلها مثل الأحزاب والإخوان، أن تشغل حيزاً يذكر في الساحة الواسعة الفارغة التي تفصلها عن الحكومة وحزبها. ولم تتمكن من استثمار الأخطاء التي تضعف قدرة الحكومة والحزب الحاكم على قيادة عملية سياسية، تنقل مصر إلى الديموقراطية بشكل آمن وسلس، ينأى بها عن المخاطر التي تترتب على التدخل الأجنبي. وقد تسابق في صنع هذه الأخطاء فريقان في الحكومة وحزبها. أحدهما لا يمتلك خبرة في مجال السياسة التنافسية، لأنه تعود على العمل في ظل تنظيم واحد أو حزب مهيمن يحتكر اللعبة السياسية. والثاني لا خبرة سياسية له من أي نوع، لأنه لم يعمل بالسياسة من قبل، إذ جاء أهم عناصره من خلفية العمل الاقتصادي الحر «البزنس» والعمل الأكاديمي. وهؤلاء الذين جاؤوا من الجامعات لم تكن لهم أدنى صلة بالنشاطات السياسية فيها، بخلاف بعض مؤسسي حركات التغيير الجديدة خصوصاً الحركة الشعبية من أجل التغيير «كفاية» الذين شاركوا في قيادة العمل الطلابي المعارض منذ انتفاضة الجامعات في العامين 1972 و1973 وحتى مطلع ثمانينات القرن الماضي. ولكن أمراض المعارضة جديدها وقديمها أعجزتها عن استثمار أخطاء نخبة الحكم، وبدا أن الكثير من أهل المعارضة ينتظرون المدد من الخارج، بالرغم من رفضهم التدخل الأجنبي. وهذا رفض صادق نصدقه، ولكنه لا يمنع من التطلع إلى استثمار أي تدخل أو ضغط أجنبي. فإذا لم يأت هذا المدد من الخارج أو جاء محدوداً لا يكفي لتعويض ضعف المعارضة واختلالاتها البنائية والوظيفية، بحث عنه البعض لدى السيدة زينب أو العذراء في تظاهرات أو مسيرات تتوسل برموز دينية مسلمة أو مسيحية. وهكذا وصلت مصر قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلى وضع يسوده الارتباك. فالحكومة والحزب الحاكم يواصلان العمل بأساليب وأدوات تجاوزها الزمن، ويتخليان بشكل مدهش عن دور كان ينتظرهما في قيادة مسيرة إصلاح حقيقي، تنقل مصر إلى عصر الديموقراطية الكاملة. كما يزداد أداؤهما ارتباكاً، وخصوصاً على مستوى التشريع عبر قوانين أصبح الجسد السياسي يضيق بها، فضلاً عن تدهور حرفة تفصيل هذه القوانين. وكان قانون تنظيم انتخابات رئاسة الجمهورية دليلاً على ذلك. فقد أخفق صانعو هذا القانون في تحقيق الانسجام الضروري بينه وبين المبادئ العامة للدستور المصري، على رغم معرفتهم أنه سيحال على المحكمة الدستورية العليا لإبداء الرأي فيه قبل التصديق عليه. كانت هذه الإحالة في حد ذاتها معيبة، لأن نظام المحكمة العليا المصرية يقوم على الرقابة اللاحقة وليست السابقة على دستورية القوانين. ولكن الحكومة أرادت تحصين هذا القانون ذي الأهمية الخاصة ضد الطعن بعدم دستوريته بعد نفاذه. ولما كان في هذا الإجراء مخالفة، أو على الأقل شبهة مخالفة للدستور ولنظام المحكمة، على نحو أساء إلى الشكل العام فقد كان مفترضاً أن يحسن صانعو القانون صوغه. غير أن الأخطاء التي وردت في سبعة مواضع فيه زادت الشكل سوءاً، حتى بعد اضطرار صانعي القانون إلى تعديل هذه الأخطاء السبعة. وعلى الجانب الآخر يزداد الارتباك كلما اكتظت المساحة الصغيرة التي تعمل فيها المعارضة بتشكيلات متزايدة جديدة، على رغم أنها كلها تقوم على أكتاف الآلاف القليلة ممن شغلوا هذه المساحة على مدى أكثر من عقدين من الزمن. فالحركة التي دبت في الساحة السياسية منذ مطلع العام الحالي لم تجذب لاعبين جدداً إلا فيما قل أو ندر. والمعارضة، جديدها وقديمها، تبدو مرتبكة إزاء أي تحرك، ليس فقط من طرف الحكومة والحزب الحاكم، ولكن أيضاً من جانب أي من أطراف هذه المعارضة نفسها. وليس أدل على ذلك من الارتباك الذي سببته مبادرة «الإخوان المسلمين» لتكوين ما أطلق عليه «التحالف الوطني من أجل الإصلاح». وقد بدأت هذه المبادرة بدعوة وجهها مركز بحثي على علاقة مع «الإخوان» لعقد ثلاث حلقات نقاش للحوار حول بناء تحالف إصلاحي واسع النطاق. وأسفرت هذه المبادرة عن عقد اجتماع في 30 حزيران (يونيو) الماضي أعلن فيه نائب المرشد العام للإخوان د. محمد حبيب تأسيس هذا التحالف. وفضلاً عن أن الطريقة التي طُرحت بها هذه المبادرة بدت مرتبكة، فقد أربكت بعض الأحزاب وحركات التغيير الجديدة، التي ذهب قياديون فيها إلى الاجتماع من دون أن يكون واضحاً هل يمثلون أحزابهم وحركاتهم أم أشخاصهم. وبعد أن تحدث بعضهم على نحو فُهم منه أنهم ممثلون للأطر التي ينتمون إليها، عادوا فأوضحوا أنهم ذهبوا بصفاتهم الشخصية. وترتب على ذلك موت التحالف الذي سعى إليه «الإخوان» لحظة مولده، بل قبل أن يولد، إذ لم يبق فيه إلا حزب نُزعت عنه المشروعية هو حزب العمل بل جناح في هذا الحزب، وحركة يسارية راديكالية صغيرة ذات ميل «تروتسكي» هي حركة الاشتراكيين الثوريين، إضافة إلى عدد من الشخصيات العامة. وعبرت إحدى الصحف الخاصة عن هذا المعنى في «المانشيت» الرئيس لعددها الصادر في 3 تموز (يوليو) الجاري»: «القوى السياسية تتبرأ من تحالف الإخوان... وإجماع على نفي الانضمام». حدث ذلك على رغم أن البيان التأسيسي ل «التحالف» الذي لم ينشأ تضمن خطوطاً عامة حول الإصلاح والتغيير، لا يختلف عليها أي ممن أسرعوا إلى نفي انضمامهم إليه، ولم يدخل في التفاصيل التي تثير الخلاف. ويصعب القول بأن «الفرار» من هذا التحالف يعود إلى الجهة التي بادرت بالدعوة إلى تأسيسه، على أساس أن معظم الأحزاب والحركات لا تريد ربط نفسها ب «الإخوان». فكل من هذه الأحزاب والحركات لا يرحب بعمل مشترك، خصوصاً إذا لم يكن هو الذي دعا إليه وحدد إطاره. فالنزوع العام في أوساط المعارضة هو إلى التفتت وليس إلى العمل المشترك. وهذا نزوع يضعف قدرة المعارضة على التقدم في المساحة التي تفصلها عن الحكومة والحزب الحاكم، بالرغم من أن بقاء هذه المساحة فارغة يطيل أمد مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية الكاملة، ويجعل الإجابة على سؤال التغيير أكثر صعوبة. -- صحيفة الحياة اللندنية في 12 - 7 -2005