هذه قصة قديمة كتبتها من قبل وأجد الآن أن ذكرها ضروري في سياق القضية التي نحن بصددها وهي قضية المبيدات والكيماويات المسرطنة التي أغرقت السوق المصرية وتسببت مؤخراً في تسمم مئات المواطنين من تناول البطيخ في أكثر من محافظة في الوجه البحري والصعيد علي حد سواء. في بداية التسعينيات كنت في زيارة لكوريا الجنوبية وهي بالمناسبة ليست من الديمقراطيات التقليدية التي يقاس عليها. وكانت القضية التي تشغل الإعلام والرأي العام تتعلق بالصحة العامة. فثمة شركة للأجهزة الكهربائية والالكترونية تصرف مخلفاتها من المواد الكيماوية في نهر صغير قريب. وقد خالفت الشركة الاشتراطات الصحية والبيئية وصرفت كميات من المخلفات في النهر قبل معالجتها مما أدي إلي تلوث مياه النهر وطفو كميات كبيرة من الأسماك الميتة. وتم إنذار الشركة مرتين. وكان المفترض مع تكرار المخالفة أن يتم غلق مصانع الشركة إلي أن تتخذ الإجراءات الوقائية الضرورية. ولكن وزارة الصحة المسئولة عن هذه القضايا لم تتخذ هذا الإجراء العقابي واكتفت بتوجيه إنذار ثالث للشركة. *** هاجت وسائل الإعلام الكورية وهاجمت وزير الصحة وثار الرأي العام. وإزاء ذلك اضطر رئيس الوزراء للضغط علي وزير الصحة فقدم استقالته. وتم علي الفور تعيين وزير صحة جديد. وتم تشكيل لجنة من وزير العدل ووزير الداخلية ووزير الصحة الجديد لإجراء تحقيق شامل ومعاقبة المخالفين والمقصرين ولكن وسائل الإعلام لم تقنع بذلك وقالت إن استقالة وزير الصحة لا تكفي بل يجب أن يستقيل رئيس الوزراء. *** عندنا الآن قضية مثارة بشدة هي قضية المبيدات والكيمياويات المسرطنة التي كان يتم استيرادها في ظل موافقات رسمية مشبوهة. ووصل الأمر للقضاء الذي أصدر حكماً رادعاً ضد المسئولين المباشرين مثل مستشار وزير الزراعة السابق وشركائه. ولكن القضاء في الوقت نفسه ألقي بالمسئولية علي وزير الزراعة السابق. كما أن الواقع وتصريحات وزير الزراعة الحالي تلقي بالتبعة علي الوزير السابق. *** ولعل أعجب ما قيل بشأن هذه المبيدات وبعضها محظور ومحرم دولياً أن تسببها في السرطان ليس مؤكداً وأن حدوث السرطان نتيجة لاستخدامها لا يتم إلا علي المدي الطويل مع تراكم الكميات التي يتلقاها الجسم بجرعات قليلة. وأن بعض هذه المبيدات ليست مسرطنة "سواء بفتح الطاء أو كسرها" ولكنها سامة. وكأن كونها سامة يجعلها "لطيفة وبنت حلال" وأن استخدامها لا يستدعي المساءلة إن لم يكن المحاكمة الجنائية. ولو أنصفنا فإن مثل هذا الأمر يستدعي المحاكمة الجنائية والمحاسبة السياسية لإجلاء الحقيقة وإظهار براءة الأبرياء ومعاقبة المتورطين لإثبات الجدية في الحرص علي حياة وصحة المواطنين وشفافية التعامل مع المواطنين في هذه القضية وغيرها من القضايا التي تتعلق بالصالح العام. *** ولا يكفي في مثل هذه الحالة أن تقوم وزارة الزراعة بشراء المبيدات المحظورة من مستورديها وتعويضهم عنها وتحميل ميزانية الدولة مبالغ أيا كان حجمها بسبب مخالفات مسئولين حكوميين أيا كانت أوزانهم أو مواقعهم السياسية أو التنفيذية. ولا يكفي في ذلك أن تصدر توجيهات بعدم استيراد مبيدات أو كيماويات مسرطنة أو سامة أو ضارة خصوصاً إذا كانت محظورة ومحرمة دولياً. فالمفترض أن هناك قواعد صارمة في هذا الشأن يجب الالتزام بها بشدة. وهناك جهات حكومية مسئولة عن إصدار التراخيص باعتماد هذه المادة أو تلك وخطر هذا المبيد أو ذاك. وهناك جهات حكومية أخري مسئولة عن المتابعة والمراقبة والفحص. وهذا وذاك من القوانين واللوائح والقرارات وهذه وتلك من الجهات الحكومية تشكل منظومة متكاملة متجانسة همها وهدفها الأساسي حماية المواطن. *** وقد فتحت قضية المبيدات المسرطنة أو السامة قضية أخري هي قضية الهرمونات المستخدمة في انضاج الخضراوات والفواكه كما استخدمت من قبل في تغذية الدواجن وفي مزارع الأسماك.. ومن المؤكد أن الإسراف في استخدام هذه الهرمونات من شأنه أن يسبب أضراراً جسيمة من بينها وبالطبع الأورام السرطانية. وهذه مسألة يجب التوقف عندها طويلا وإجراء أبحاث دقيقة لكل أنواع الخضراوات والفواكه المنتجة محليا - فضلا عن المستوردة - وأن تعلن نتائج هذه الابحاث في أقرب فرصة ممكنة. وأن توضع ضوابط صارمة لاستخدام هذه الهرمونات - فضلا عن الاسمدة الكيماوية والمبيدات - في الزراعة. وأن تكون هناك عقوبات صارمة لأي مخالفات. فلقد أصبح المواطن المصري محاصرا بالتلوث البيئي الشامل فضلا عن الاستخدام المفرط - وأحيانا الإجرامي - للكيماويات والمبيدات مما يهدد صحة هذا المواطن في الحاضر والمستقبل ويهدر مليارات الجنيهات في معالجة الأمراض الناجمة عن هذا التلوث وهذا الاستخدام السييء. والأمر في الواقع ليس مجرد تلوث في الهواء والماء والمأكولات ولكن الأخطر منه هو تلوث الضمائر. والعلاج لا يتطلب مجرد فكر مختلف أو جديد ولكنه يتطلب روحاً متجددة.. روحا تدعو أصحابها أولا للالتزام بواجباتها تجاه الوطن والمواطن ما هو مكتوب منها وما هو متفق عليه عرفا وما هو مفهوم ضمنا. وتدعو أصحابها ثانيا للاعتراف بالخطأ والاستعداد لتحمل مسئولية أي قرار يتخذ صوابا كان أو خطأ حتي ولو كان الخطأ بحسن نية. وتدعو أصحابها لأقصي درجات الشفافية في التعامل مع القضايا والمسئولين ومحاسبة المخطئين والمتعدين دون نظر إلي مواقعهم وأدوارهم. وتدعو أصحابها إلي عدم التنصل من المسئولية ونسبة ما يجري للقدر أو للخطأ البشري أو تحميل المسئولية لصغار الموظفين كما يحدث عادة في الكوارث والمصائب الكبري التي تحدث. وحين تعم هذه الروح ويعلو شأنها في مجتمعنا ربما يأتي يوم نري فيه مسئولا يعترف بالخطأ.. ويستقيل. ------ صحيفة الجمهورية المصرية في 15 -7 -2005