تخيلوا لو أن خلافا وقع بين رئيس الجمهورية وبعض قادة الجيش بسبب مزايا خاصة طالبوا بها ولم تتحقق، أو مزايا تم منعها عنهم، فقرر قادة الجيش الانسحاب من على الثغور المرابطين فيها بحكم وظيفتهم وبحكم الواجب الوطنى، ثم تركوا حدود الدولة للأعداء يغزون الوطن ويحتلونه، يقتلون رجاله، ويهتكون عرض نسائه، ماذا عسانا أن ننعت هؤلاء إذا فعلوا هذا؟ .. ماذا نقول عن هؤلاء إذا انسحبوا من مواقعهم وتخلوا عن دورهم الذى يفرضه الواجب الوطنى؟ .. بماذا يمكن أن يعاقب هؤلاء الذين خانوا الأمانة وخربوا الوطن لأن مطلبا شخصيا لبعض رجالهم لم يتحقق؟ .. أترك الإجابة للشعب ليحدد بنفسه نوع وحجم العقوبة، ويوقعها أيضا بنفسه باعتبار أنه هنا المتضرر والمجنى عليه. ماذا يحدث لو أضرب كل الأطباء بلا استثناء وتركوا المرضى يتخذون طريقهم نحو القبور بلا تدخل منهم لعلاجهم بحكم دورهم الذى يفرضه عليهم الواجب؟، وماذا عسانا أن ننعت هؤلاء؟. ماذا يحدث لو أضرب جموع المعلمين وجلسوا فى بيوتهم، وذهب التلاميذ والطلاب للمدارس فلم يجدوهم، فعادوا أيضا بدورهم للمنازل يحملون كتبا لم تفتح وكراسات لم تسود صفحاتها؟ ماذا يمكن أن يحدث لو أن عمال شركات المياه أضربوا وتركونا بلا مياة (نشرب من البحر) لأن لهم مطالب، والأمر نفسه لو اضرب عمال ومهندسى شركات الكهرباء وتركوا البلد غارقة فى الظلام وتصاب كل أجهزتها بالشلل التام وتصبح الحياة فيها معدومة؟. ماذا يحدث لو أضرب سائقو القطارات والاتوبيسات والميكروباصات والتاكسيات والتكاتك، ولم يجد المواطن وسيلة ينتقل بها؟. ماذا يحدث يا شعب لو أن عمال النظافة أضربوا عن عملهم وتركوا لنا جبال القمامة وقد تحللت محتوياتها وسرى فيها النتن والعفن وانبعثت منها الروائح الكريهة التى تؤذينا وتسبب لنا الأمراض؟. والسؤال هنا: بماذا يقضى القضاء لو تقدم المتضررون ببلاغات للنيابة ضد هؤلاء الأطباء والمعلمون والعمال، وتم تقديمهم للمحاكمة، وطالبت النيابة بمعاقبتهم، لأنهم عطلوا مصالح الشعب، هل يكون عند القاضى قدرة على تطبيق القانون وإنزال العقوبات عليهم؟. رجال القضاء يمثلون واحدة من سلطات البلد الأساسية، هم السلطة الثالثة، ووظيفتهم الفصل فى الدعاوى والقضايا بين المواطنين وبعضهم، أو بين المواطنين والدولة، بمقتضى القوانين والتشريعات التى تخرج عن السلطة التشريعية (البرلمان)، ولا يخرج عمل أى عضو فى الهيئات القضائية عن تطبيق نصوص القانون على أطراف الخصومة. إذن هناك سلطة عليا ممثلة فى البرلمان هى التى تحدد واجبات وحقوق هؤلاء، وهى التى تسن القوانين التى يعمل بها هؤلاء، وهذه السلطة تمثل الشعب، ولذا فهى فوق كل السلطات، لأنها السلطة الوحيدة التى تأتى باختيار الشعب لها، الذى هو مصدر كل السلطات. رجال القضاء لهم خصوصية شديدة، بحكم وظيفتهم، فلابد أن يكون لهم هيبة، وهذه الهيبة مصدرها الأساسى هو (الصمت)، الذى يقتضى اختفاءهم من على واجهة المشهد السياسى تماما، وبعدهم بل وانفصالهم التام عن أى جدل سياسى، وعدم الخوض فى أى حوارات لها خلفية سياسية، وليس لهم أن يتابعوا تنفيذ أحكامهم، لأن هذا ليس دورهم، فدروهم ينتهى عند النطق بالحكم، فلا يعيبهم ولا ينقص من قدرهم إهمال السلطة المنوط بها تنفيذ الأحكام لما يقضون به، وهذا معمول به فى كل بلاد الدنيا. لكننا نلاحظ منذ قيام ثورة يناير 2011 أن بعض رجال القضاء يباشرون دورا بعيد كل البعد عن وظيفتهم الأساسية، فالقاضى له احترامه الذى يصل لدرجة القدسية وهو يباشر عمله فوق منصة القضاء، وعندما يجلس على منصة أخرى لا يكون هنا قاضيا، بل يأخذ وصفا آخر من ذات القضية التى يخوض فيها أيا كانت، سياسيا، حزبيا، اجتماعيا، تعليميا، المهم أنه هنا لا يكون قاضيا، وليس له أن يطالب بالحصانة التى يتمتع بها وهو فوق منصة القضاء، تلك الحصانة التى يوفرها له كحق أصيل لا خلاف عليه الدستور والقانون والعرف، ويوفرها له المتقاضون، ويحرص عليها المجتمع، لكن عندما يجلس على أى منصة أخرى، فيكون لكل مقام مقال. القضاء فى مصر منذ قيام الثورة هو السلطة الوحيدة الفاعلة فى مصر، فهو الذى يحل ويلغى، ويمنع ويمنح، ويعزل ويبقى، وصدمنا فى أحكام كثيرة، ولم يثر الشعب ضده، حتى وصل الأمر أن يقضى بحل مجلس الشعب المنتخب من الشعب فى أول انتخابات حرة سجلها التاريخ فى أنصع صفحاته، دون قبول بأن يعرض الأمر على الشعب مرة أخرى من خلال استفتاء مثلما حدث عامى 1987 و 1990، فالشعب مصدر السلطات، بمعنى أن السلطة القضائية تقضى بقانون سنه المجلس المنتخب من الشعب، وحينما تتجاسر هذه السلطة ضد الإرادة الشعبية، ويقضى سبعة أفراد بهدم ما جاء بإرادة ملايين الشعب، فإن قواعد العدالة كانت تقضى بعرض الأمر على الشعب مرة أخرى، فإذا وافق على الحل يكون الحل واجب، وإذا رفض الحل يعتبر تجديدا للثقة بهذا الاختيار الحر، وعندما قرر رئيس الجمهورية بما معه من صلاحيات قانونية إعادة المجلس للانعقاد، ثارت ثائرة القضاة الذين استقووا بمدفعية وصواريخ المنظومة الإعلامية التى يملكها الفلول من رجال الأعمال (اللصوص) الذين يرون فى نجاح الثورة ضياعا لهم، ولذا فهم يوفرون غطاءً قويا لكل من يتقدم خطوة فى طريق الثورة المضادة. لأول مرة فى تاريخ مصر يضرب القضاة عن العمل، لم يفعلوها حينما دخل الرائد سعد زايد (أحد رجال ثورة يوليو) عام 1954 وضرب بالحذاء العلامة خالد الذكر الدكتور عبدالرازق السنهورى باشا المرجعية الأولى للقوانين المدنية والإدارية فى مصر حتى الآن، بل تم ترقية هذا الضابط ومكافأته بأن تم تعيينه محافظا للقاهرة، ولم يضرب القضاة عام 1969 حينما تم عزل نصف مستشارى محكمة النقض، وتسريح ثلث القضاء لأعمال إدارية، ولا عندما تم صدور دستور عام 1956 ونص فى مادته رقم 191 على تحصين قرارات مجلس قيادة الثورة السابقة واللاحقة على صدور الدستور من أى طعون أمام القضاء، وكان ذلك فى دستور دائم وليس فى إعلان مؤقت لعدة أيام. ولم ينتفض القضاة ويضربون حينما تعرض القاضى محمود عبداللطيف حمزة عام 2005 للضرب والسحل فى عرض الشارع من قبل رجال الشرطة أمام ناديهم، بل الذى انتفض وبادر بالتظاهر ضد هذا الفعل الهمجى هو الدكتور محمود مرسى، حيث قاد مظاهرة تندد بذلك أمام محكمة شمال القاهرة، وتم اعتقاله لعدة أشهر بسبب هذا الفعل، فلم يتظاهر القضاة ولم يضربوا على هذه الإهانة غير المسبوقة، بل الذى تظاهر ودفع الثمن غاليا كان الدكتور محمد مرسى، وتدور الأيام ويصبح الدكتور مرسى رئيسا للجمهورية، ويكون رد الجميل له أن يقود القضاة ضده عصيانا ليس له مثيل فى تاريخ مصر، بل أزعم أنه لم يحدث فى تاريخ العالم أن أضرب القضاة عن العمل بهذا الشكل، رغم أن هناك نصوص صريحة فى قانون العقوبات تجرم هذا الفعل، وترتب عقوبات جنائية على من يقترف هذا. وما يتذرع به المحرضون على الإضراب من أن هذا لصالح الشعب، يعد من قبيل الضحك على الذقون، والشعب ليس من السذاجة حتى يصدق هذه الدعاوى الباطلة التى يراد بها حقا. لو امتنع كل فئات المجتمع عن تقديم أى خدمة لهؤلاء المضربون، بدءً من عامل البنزينة برفض تموين سياراتهم، وبائع الخبز بمنع بيع الخبز لهم، وكذا البقال والجزار والمكوجى، حتى الطبيب والصيدلى والمعلم، وكذا يقوم عامل الكهرباء بقطع الكهرباء عن منازلهم، وعامل التليفون بقطع الحرارة عن تليفوناتهم، وتقوم شركة المياة بقطع المياة عن منازلهم .. وهكذا، ماذا يحدث لو قام كل هؤلاء بحسب مواقعهم بمنع خدماتهم عن القضاة؟ .. هل يكون هؤلاء مخطئون؟ .. هل نقول عن هؤلاء أنهم مجرمون ويخربون الوطن؟ أم أنهم يمارسون (حقهم) فى التعبير عن إرادتهم؟ .. إذا كان رجال القانون وسدنة العدالة يرون فى الإضراب والعصيان عملا مشروعا وحقا لهم فكيف يحرموه على غيرهم من كل فئات المجتمع؟ .. هم يمتنعون عن أداء الأمانة التى وضعتها الدولة فى أعناقهم، وكذلك الآخرين يفعلون مثلهم ولا يزيدون شيئا، إنه نفس المنطق. نحن نشهد الآن وبمنتهى الهدوء، وفى وضح النهار، انقلابا سياسيا ناعما يقوده عددا قليلا من القضاة (أيتام نظام مبارك) .. تحت غطاء إعلامى رهيب، الهدف منه نشر الفوضى لإسقاط النظام، لكن هؤلاء الانقلابيون ضد الشرعية يسقطون من حساباتهم رد فعل الشعب، والشعب الآن أمام خيارين: إما القضاء على الثورة، أو الثورة على القضاء. كلمة أخيرة: هل تعلم أن مصطلح (دستور توافقى) ليس له وجود فى تاريخ العالم كله، وأنه من اختراع النخبة المصرية، التى نجحت فى تسويقه على أنه من المسلمات .. فى مصر (فقط) تم اختراع: رئيس توافقى .. ودستور توافقى .. ونائب عام توافقى .. وقريبا: ترامادول توافقى.