الدول كالأشخاص متى أمسكت بزمام نفسها استمرت ومضت مسيرتها، ومتى قامت على غيرها ذهبت وتفكَّكت؛ لأن المتسلِّق الطفيلى لا يملك القوة على البقاء طويلًا، وإنما يظهر ساعة ثم يتلاشى، بخلاف الراسخ فى الأرض الذى يعتمد فى قيامه على نفسه. وهذا البناء الذاتى ينبع أصالة مِن عقيدة الدولة وهويتها، ودراسة جادة وصحيحة لمواردها وثرواتها، ووضع الأهداف والخطط طويلة الأمد، وإيجاد المحفِّزات الدافعة للشعب على التفانى فى الوصول لأهدافه دون ملل، وإِنْ طال الزمان. ويتوقف انطلاق الأمة على قدرتها فى الوفاء بهذه المتطلبات، دون إخلال ببعضها، ومتى تعثرت فى بعضها تعثرت فى مسيرتها بالقدر نفسه أو يزيد. ولا يوجد فى تاريخ البشرية كلها أنموذجًا وفَّى بهذه المتطلبات على أكمل الوجوه وأحسنها، وحقَّق قفزة فريدة لا مثيل لها؛ إلا النموذج الإسلامى فى المدينةالمنورة، عندما هاجر إليها النبى - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه - رضوان الله عليهم -، فاستقبلت المدينة آنذاك جحافل المهاجرين، وكان المتوقّع بحسابات الناس اليوم أن تنتشر البطالة ويتفشى النهب والسرقة ويعم الفقر والجوع أمدًا بعيدًا، غير أن الدولة الوليدة انطلقت سريعًا فى بناء نفسها اعتمادًا على عقيدتها ودينها، فلم تمض عشر سنوات إلا وهى تجهز جيشًا لحرب أكبر الإمبراطوريات آنذاك. ووجدنا فى هذه الأمة الوليدة من يقوم بمفرده بتجهيز جيش كامل على نفقته الخاصة، ووجدنا فيها شابًا مثل أسامة بن زيد يقود جيشًا وينتصر به، وآخر مثل ابن عباس يتصدَّى للإفتاء، ويطلب الخلفاء مشورته رغم حداثة سِنّة، وما يلبث أنْ يصبح حَبْر هذه الأمة وعالمها البارز. ثم تستمر هذه الأمة لقرون طويلة، تستعصى فيها على المحو والإبادة رغم كثرة وشراسة الهجمات عليها وعلى عقيدتها ودينها، غير أنها تصدَّتْ لهذا كله، وبقيت ولا تزال وستظل باقية، محفوظة من الزوال، تضعف لكن لا تموت ولا يلحقها الفناء؛ لارتباطها بالإسلام المحفوظ مِن الله - عز وجل -، عندما قال سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر:9). فهى أمة تملك فى داخلها بنيانًا قويًّا راسخًا يحفظها مِن الفناء والزوال، ويجنِّبها تلاعب الأعداء وألاعيبهم، مثلما يحدث فى تلك الأمم الطفيلية التى يعتمد بناؤها على غيرها من الأمم، فهى باقية بإرادتهم لها البقاء، لامتلاكهم زمامها؛ بتبعيتها لهم عبر التشريعات القضائية الوضعية، أو عبر التبعية الاقتصادية، أو غيرها مِن ألوان التبعية، ولعل أكبر مثال على هذه الأمم الطفيلية تلك التى تعتمد فى اقتصادها على السياحة الوافدة لها من الخارج، فهى مرتبطة برضى دول هؤلاء الوافدين عنها، تمنعهم متى أرادت فتهتز هذه الطفيليات وتسقط. ولهذا وجدنا أكبر الدول الآن هى تلك الدول الصناعية التى تعتمد فى بنيانها على الصناعة الداخلية، والاقتصاد المحلى المتماسك، فهى تعمل بيدها، لا بيد غيرها. وقد عُنى الإسلام بتأصيل هذا المبدأ غاية العناية، فحثّ المسلمين على التوكُّل على - الله عز وجل -، والأكل من عمل اليد، وقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِى اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» رواه البخارى (2072). فالعمل فى الإسلام قيمة كبيرة، فى حدِّ ذاته، بغض النظر عن نتائجه، بل لو قامت الساعة وفى يد الإنسان فسيلة (نخلة صغيرة) فهو مطالبٌ بغرسها فى الأرض، ولا يمنعه ذلك من القيام بعمل لن تظهر نتائجه بقيام الساعة؛ لأن العمل فى نفسه قيمة مطلوبة. وقد كان سفيان الثورى يقول: «عليك بعمل الأبطال: الاكتساب من الحلال، والإنفاق على العيال» [تقدمة الجرح والتعديل لابن أبى حاتم/ 85]. وقال أيضًا: «لأن أُخَلِّفَ عَشْرَةَ آلاف درهم يحاسبنى الله عز وجل عليها أَحَبُّ إِلَى مِنْ أنْ أَحْتَاجَ إلى الناس» [السابق/89 90]. وقال بشر بن الحارث: «يا بُنَى الزم السوق فإنها مِن العافية» [تاريخ بغداد 5/3]. فالعمل عافية للأمة مِن أن يتحكّم فيها أعداؤها، أو يفرض عليها قراراها ويوجّه مسيرتها. ويشترط فى هذا العمل أنْ يكون نابعًا مِن داخلها، متناغمًا مع هويتها، تخطط له عقول أبنائها، وتقوم به سواعدهم، وقد قالوا قديمًا: «مَا حَكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِك فتَوَلَّ أَنْتَ جَمِيعَ أَمْرِك». [email protected]