كثر في الآونة الأخيرة حديث الناس عن واجبات الرئيس ، ومطالب الشعب من الرئيس الجديد ، ولكن هل سأل واحد من الشعب نفسه : ما الواجب على الشعب حتى يكون رئيسه عادلا ؟ هل تذكر الشعب كيف كان يعيش قبل نجاح ثورته ؟ لقد قهَرْنا قوَّاتِ الاحتلال بِمَحض فَضْل الله تعالى، ثُم بأخْذ شيءٍ من الأسباب، وفَّقَنا إليها اللهُ وحده، وربَط على قلوبنا، وثبَّت أقدامَنا؛ فاللهمَّ لك الحمد كلُّه، ولك الشُّكر كله، وإليك يُرجَع الأمر كلُّه، علانيته وسِرُّه. كانت قواتُ الاحتلال (الشُّرطة) تتَعامل معنا بانتقام، على الرَّغم من صَمْتنا، ومُوافقتنا على كلِّ شيء، وأيِّ شيء، وتَذَلُّلِنا ومَسْكنَتِنا! إلاَّ أنَّ الواقع أنَّهم كانوا ينتقمون منَّا، لماذا؟ لأنَّنا أجرَمْنا حين وُلِدنا في مصر! لا حقَّ لنا في هذا البلد، إلاَّ أنَّ بلدَنا "أُمُّ الدنيا"! ولا حُرِّية للصَّحافة ولا للخُطَباء، إلاَّ أنَّنا في بلدٍ "ديمقراطي"! ولا يَحقُّ للمسلمين أن يُمارسوا الدَّعوة إلى الله، إلاَّ أنَّ "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسيُّ للتشريع"! تَناقُضٌ كبيرٌ بين القوانين المكتوبة وبين تطبيقِها على أرض الواقع، وهذا ما حَدَا بأحد الفارِّين من مصر - حينما سُئِل عن سبب سفَرِه من مصر إلى دولة غربيَّة، برغم أنَّ القانون في البلدَين قانونٌ وضْعي - إلى أن يُجيب: نعَم، في مصر قانونٌ وضعي، لكنَّه لا يُطبَّق، بخلاف الغرب الذين يحترمون قوانينَهم! والذين أُخِذوا إلى مقارِّ "إرهاب الدولة" - أمن الدَّولة - علموا جيدًا أنَّه لا قانون في البلد، وأنَّ العاملين في هذا الجهاز الفاسدِ لَم يكونوا إلاَّ قوَّات احتلال، لا رادِعَ لهم من دِينٍ ولا خلُق، ولا أقل صفات الإنسانيَّة. وقد سَمِعْنا بعضَ إخواننا الذين فكَّ الله أسْرَهم مِن قَيْدِ جُند الطَّاغية، يُخبِرون ببعض ما لاقوه من تعذيبٍ مادِّي ومعنوي؛ فمِن أخٍ ساموه ضربًا على ظهره، وآخَر على بطنه، وثالثٍ بالصَّاعق الكهربائي، ورابعٍ انتهَكوا عِرْضه، وخامسٍ بالوا في فمِه - أعزَّكم الله - وسادسٍ وسابع... وليس الخبَرُ كالمعايَنة. حتَّى كانوا لا يُصدِّقون أنَّ هؤلاء الذين يُعذِّبونَهم مسلمون، أو حتَّى أنَّهم بَشَر عندهم مشاعرُ كالبشَر، كان هذا إحساسَ الإخْوة تجاه مَن يعذِّبونَهم، لكن الواقع كان أسوأ؛ فقد كان مِن ضبَّاط أمن الدولة - المسلمين بالاسم - مَن يَطلبُ مِن الإخوة أن يَسبُّوا الدِّين لكي يَتْركهم، فإذا امْتنَع أحَدُهم عذَّبَه الضابطُ بالصَّعْق الكهربي؛ حتَّى يَغِيب عن وعيه، فيَسُبَّ الدِّين وهو غير واعٍ، بل كان مِن هؤلاء الضُّباط مَن يقول: "إنِّي لا أخاف الله"، ومنهم مَن كان يقول: "إنَّ حسني مبارك أقوى مِن الله؛ وإلاَّ لأَنْجاكم الله منَّا"... إلى آخِر هذا المسلسل البغيض من التَّطاول والكفر الصُّراح، مِمَّا يَنْدى له جبينُ كلِّ مسلم، بل وكلِّ إنسان عنده بقيَّةٌ من الإنسانيَّة. ولَم يكن ذلك مقصورًا على جهاز "إرهاب الدولة" المصريِّ فقط؛ فقد فُوجِئْنا به في معظم بلادنا العربيَّة، بل وكان في بعضها أشنَع من هذه الجرائم وأبشَع، أينما وُجِد فيها مَن يحبُّ الإسلام، أو يدعو إليه؛ سواءٌ في تونس، أو ليبيا، أو سوريا... حتَّى هبَّ شرفاءُ هذه الشُّعوب؛ لِيَضعوا نهايةً لِهذا البَطْش المُمنهَج، ولكيلا يقَعوا تحت طائلة قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97]. فالرِّضا بالظُّلم ظلمٌ للنَّفْس، وقد رَوى الإمامان أحمدُ والنَّسائيُّ بسنَدين صحيحَيْن: أنَّ رجلاً سألَ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد وضعَ رِجْلَه في الغَرْز: أيُّ الجهادِ أفضل؟ قال: ((كلمةُ حقٍّ عند سُلطانٍ جائر))[1]. فالنَّاس مسؤولون عن ظُلْم حُكَّامِهم، "والخلفاء الرَّاشدون كانوا يُقِرُّون هذه المسؤوليَّة؛ فأبو بكرٍ أوَّلَ ما وَلِيَ الخلافة، قال: "إنِّي وُلِّيتُ عليكم ولستُ بِخَيركم، فإنْ أحسَنتُ فأعينوني، وإنْ أسَأْتُ فقَوِّموني"، وعمر لَمَّا ولي الخلافة قال: "مَن رأى منكم فِيَّ اعوجاجًا، فليقوِّمْه"، قال له أعرابِيٌّ: "والله لو رأينا فيك اعوِجاجًا، لقوَّمْناه بسيوفِنا"، وكثيرٌ من الأحاديث والآثار مُتضافِرةٌ على تقرير هذه المسؤوليَّة"[2]. أمَّا البلاد التي منَّ الله عليها بأنْ تَحرَّرَت من قبضة الظُّلم - وإن كان التحرُّر حتَّى الآن ليس إلاَّ شكليًّا - فإنَّ مسؤوليَّة الشُّعوب فيها أشدُّ إيجابًا؛ لأنَّهم مُطالَبون ألاَّ تَرجع هذه القبضةُ لتتحكَّم فيهم ثانيةً، وإلاَّ عاد إليهم الظُّلم بأعتَى وأشنَعِ صُورِه؛ لأنَّه سيَكون انتِقامًا من الشعب الَّذي أراد الحريَّة. وليس معنى "مراقبة الشَّعب للحاكم" أنَّ الشعب يُخوِّن هذا الحاكِمَ، أو لا يثِقُ فيه، وإلاَّ فالصَّحابة مُجْمِعون على أنَّ أفضل هذه الأمَّةِ بعد نبيِّها: أبو بكر وعمر؛ فأمَّا أبو بكر فقال: "إنْ أحسَنتُ فأعينوني، وإنْ أسَأْتُ فقَوِّموني"، وأمَّا عمر فقال: "مَن رأى منكم فِيَّ اعوجاجًا، فلْيُقوِّمْه"، فمراقبة الحاكم ومحاسبته لا تَعني بالضَّرورة أنَّه لا يَصْلح للحُكم، أو أنه شخصٌ ظالِم؛ لأنَّه لا يوجد بشَر معصوم من تسَلُّط الأهواء، سوى الرُّسلِ والأنبياء. فما المطلوب من الشُّعوب حتَّى لا يَظلمهم حُكَّامُهم، مع حِفْظ كامل الاحترام والتقدير للحاكم؟ 1- ألاَّ يكون الناس ظالِمين لأنفسهم؛ فكما تكونوا يولَّ عليكم، وإن كان هذا الحديث ضعيفًا، لكن الله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ويقول سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، ويقول سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]، ويقول - عزَّ مِن قائلٍ -: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص: 59]. ولله دَرُّ الإمام حسن البنَّا - الذي نسي معظَمُ أتباعه كثيرًا من منهجه - حينما قال: "أقيموا دولةَ الإسلام في قلوبِكم؛ تَقُم على أرْضِكم"! 2- بَذْل النُّصح للحاكم في السِّر، وإلاَّ ففي العلن؛ فعَنْ تَميمٍ الداريِّ أنَّ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الدِّين النَّصيحة))، قُلنا: لِمَن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله، ولأئِمَّة المسلمين وعامَّتِهم))[3]، قال الإمام النوويُّ في شرح هذا الحديث: "هَذا حَديثٌ عَظيمُ الشَّأْن، وعَليه مَدَارُ الإسلام"[4]. وقال ابن بطَّال: "والنَّصيحة فرضٌ، يُجْزِئ فيه مَن قام به، ويَسْقط عن الباقين، والنَّصيحة لازمةٌ على قَدْر الطاقة، إذا عَلِمَ النَّاصحُ أنه يُقبَل نُصْحه، ويُطاع أمره، وأَمِن على نفسِه المكروهَ، وأمَّا إنْ خَشي الأذَى، فهو في سعَةٍ منها"[5]. وقال الإمام الحافظ ابن حجر: "فالنَّصيحة لله: وصْفُه بما هو له أهلٌ، والخضوع له ظاهرًا وباطِنًا، والرَّغبة في مَحابِّه؛ بفعل طاعته، والرَّهبة من مَساخطه؛ بِتَرك معصيته، والجهاد في ردِّ العاصين إليه... والنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ: تَعَلُّمُه وتَعْليمُه، وإقامَةُ حُروفِه في التِّلاوَةِ، وتَحْريرُها فِي الكِتابَة، وتَفَهُّمُ مَعانيه، وحِفْظُ حُدودِه، والعَملُ بِما فيه، وذَبُّ تَحْريفِ المُبْطِلينَ عَنْه، والنَّصيحة لرسوله: تعظيمُه ونَصْره حيًّا وميتًا، وإحياءُ سُنتِه؛ بتعَلُّمِها وتَعْليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله، ومَحبَّته ومحبَّة أتباعه. والنَّصيحة لأئمَّة المسلمين: إعانتُهم على ما حَمَلوا القيامَ به، وتنبيهُهم عند الغفلة، وسَدُّ خَلَّتِهم عند الْهَفْوة، وجَمْعُ الكلمة عليهم، ورَدُّ القلوب النَّافرة إليهم، ومِن أعظم نصيحتِهم: دفْعُهم عن الظُّلم بالَّتِي هي أحسَن..."[6]. وتاريخُ الأمَّة حافلٌ بالعلماء الربَّانِيِّين الذين بذَلوا لِحُكَّامهم النُّصْح، وساعَدوا على إصلاح الحاكم، وصدَعوا بالحق في وجهِه[7]. 3- عدم تقديس شخص الحاكم مهما بلغَتْ منْزلتُه؛ لئلاَّ يَكون الشعبُ عونًا للحاكم على شَيْطانه، فيُصاب بِداء العظَمة، ويتَمكَّن منه الغرور. 4- الوقوف أمامه إذا وقع منه الظُّلم، والصَّدْع بكلمة الحقِّ في وجهه، لا يَخاف منه ولا مِن بَطْش جندِه، ولا يَستمع لِمن يُخوِّفُه منه، ويُخذِّلُه عن موقف الحق، فإذا تعرَّضْتَ لأذًى بسبب ذلك، فهو في سبيل الله، وإذا دبَّرَ لقتلِك، فإنَّ هذا قدَرُك، وأَنْ تَموت كريمًا خيرٌ من أن تَحْيا مظلومًا ذليلاً. واعلَمْ أنَّ "صناعة الحاكم الظَّالِم" تبدأ بالتَّغاضي عن أخطائه ولو قَلَّتْ، ثُمَّ يَعتاد الناسُ على أخطائه، ويُبَرِّرون ذلك بأنَّها قليلة، ثُمَّ تتزايد الأخطاءُ والناس غافلون، إلى أن يُفاجَؤوا بِحَاكمهم وقد أصبَح طاغية، فيَسألون: "مَن الَّذي جعله هكذا، وقد كان في بداية حكمِه مُصلِحًا؟!"، ولا يَعلمون أنَّهم هم الذين حوَّلوه إلى طاغية. 5- أن تُدافع عمَّن وقعَ عليه ظلمٌ من الحاكم، ولا تَسْكت حتَّى يأتي دورُك في إيقاع الظُّلم عليك، ثُم تقول: أُكِلتُ يوم أُكِل الثَّور الأبيض! 6- أن تَصْبِر على الحاكم إذا كان يتدرَّج في الإصلاح؛ لأنَّ "ما يَأتي بِسُرعة يَذْهب بسُرعة"؛ كما في المثَل، وقد دخل عبدُالملك بن عمر بن عبدالعزيز على عُمَر، فقال: "يا أمير المؤمنين، إنَّ لي إليك حاجةً فأخْلِنِي"[8]، وعنده مَسْلمة بن عبدالملك، فقال عمر: "أَسِرٌّ دُونَ عمِّك؟" قال: "نعَم"، فقام مَسْلَمة وخرَج. وجلَس بين يدَيْه، فقال: "يا أمير المؤمنين، ما أنت قائلٌ لربِّك غدًا إذا سألَكَ فقال: رأيتَ بدعةً فلَم تُمِتْها، أو سُنَّة فلم تُحْيِها؟"، فقال له: "يا بُنَي، أشيءٌ حَمَّلَك الرَّغبة إلَي، أم رأيٌ رأيتَه من قِبَل نفسك؟" قال: "لا والله، ولكن رأيٌ رأيتُه من قِبَل نفسي، عرفتُ أنَّك مسؤولٌ، فما أنت قائل؟". فقال له أبوه: "رَحِمَك الله، وجَزاك مِن ولَدٍ خيرًا، فوالله إنِّي لأَرْجو أن تكون مِن الأعوانِ على الخير، يا بُنَي، إنَّ قومَك قد شَدُّوا هذا الأمر عقدةً عقدة، وعُروةً عروة، ومتى ما أريد مُكابرتَهم على انتزاعِ ما في أيديهم لَم آمَنْ أن يفتقوا عليَّ فتقًا تَكْثر فيه الدِّماء، واللهِ لزَوال الدُّنيا أهوَنُ عليَّ مِن أن يُهْراق في سبَبِي مِحْجمةٌ من دَم، أوَما تَرْضى أنْ لا يأتي على أبيك يومٌ من أيَّام الدُّنيا إلاَّ وهو يُميت فيه بدعةً، ويُحيي فيه سُنَّة، حتَّى يَحْكم الله بيننا بالحقِّ، وهو خيرُ الحاكمين؟"[9]. 7- أن يتعلَّم الناسُ فِقْهَ التعامل مع الحاكم؛ ماذا يَقْبلون منه، وماذا يَردُّون، ومتَى يُسْدون إليه النُّصح، وكيف يَبْذلونه، ومتَى يرضَوْن به، ومتَى يَخْرجون عليه... وذلك متوفِّرٌ في كتبِ الفقه، وتاريخُ الأمَّة حافلٌ بالعلماء الربَّانِيِّين الذين لَم يَرْضوا بِظُلم حُكَّامهم، وساعَدوا على إصلاح الحاكم، أو خَلْعِه إذا لَم يُرْجَ منه الصَّلاح. فمثلاً: العِزُّ بن عبدالسلام عندما دخل على سُلْطان مصر في يوم عيدٍ، وكان السُّلطان هو المَلِك الصَّالح أيُّوب بن الكامل، "فشاهدَ العساكرَ مُصطَفِّين بين يدَيْه، ومَجْلسَ المملكة، وما السُّلطانُ فيه يومَ العيد مِن الأبَّهة، وقد خرجَ على قومه في زينتِه؛ على عادة سلاطين الدِّيار المصرية، وأَخذَت الأُمراءُ تُقبِّل الأرضَ بين يدَي السُّلطان. فالتفتَ الشيخُ إلى السُّلطان، وناداه: "يا أيُّوب، ما حُجَّتك عند الله إذا قال لك: ألَم أُبوِّئْ لك ملكَ مصر، ثُم تبيح الخمور؟" فقال: "هل جرى هذا؟" فقال: "نعَم، الحانة الفلانيَّة يُباع فيها الخُمور، وغيرها من المُنكَرات، وأنت تتقلَّب في نعمةِ هذه المملكة"، يناديه كذلك بأعلى صوته، والعَساكر واقفون، فقال: "يا سيدي، هذا أنا ما عَمِلتُه، هذا من زمان أبِي"، فقال: "أنت مِن الذين يقولون: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [الزخرف: 22]؟!"، فرسمَ السُّلطانُ بإبطال تلك الحانة. فسأله أحدُ طلابه لَمَّا جاء من عند السُّلطان، وقد شاع هذا الخبَر: "يا سيدي كيف الحال؟" فقال: "يا بُنَي، رأيتُه في تلك العظَمة، فأردتُ أن أُهِينه؛ لئلاَّ تكبر نفسُه، فتؤذيه"، فقلت: "يا سيدي، أمَا خِفتَه؟" فقال: "والله يا بني استحضرتُ هيبةَ الله تعالى، فصار السُّلطانُ قُدَّامي كالقِط"[10]! وأخيرًا: على الشُّعوب المسلمة أن تَعلم أنَّه لا صلاح لَها ولا نجاح، ولا تقدُّم ولا ازدهار إلاَّ بالرُّجوع إلى كتاب ربِّها وسُنَّة نبيِّها، مهما رأَوْا من أنفسهم من التقصير والابتعاد عنهما؛ فالعودة إلى هذين الأصلَيْن يَتْبعُهما كلُّ خيرٍ في الدُّنيا والآخرة، فلا يُلهِكم حبُّ الدنيا عن التمسُّك بشريعة ربِّكم، فالتقدُّم الدنيويُّ تابع دائمًا للالتزام الدِّينِي، ولا يَحْدث العكس. وإنَّ أعداءنا يَعلمون أنَّ هذه الأمَّة عندما تعود إلى دينها وعقيدتِها الصحيحة، تتقدَّم على كلِّ الأُمَم، بل وتَسْعد الدُّنيا كلُّها بقيادةِ مَن يَحمل لواء الإسلام بحقِّه؛ لذلك يَسْعون جاهِدين أن يُبعِدونا عن العودة إلى ديننا الحنيف، ويُجنِّدون كلَّ مَن يستطيعون تجنيدَه في سبيل تَغْييب المسلمين عن سبيل ربِّهم؛ فتارةً يُغْروننا بتقدُّمِهم المادِّي، وتارةً يَبثُّون الخلافاتِ بين المسلمين، وتارةً يُرسلون المُخرِّبين ومثيري الفِتَن؛ ليشيعوا الفوضى والمذابحَ في طول البلاد وعَرضِها، وتارةً يَشْحنون العالَم بِبُغض الإسلام، ويُشوِّهون تاريخَه، حتَّى ينجرف بعضُ المسلمين وراءهم، واصِمين الإسلامَ بالجمود والتخلُّف، وهؤلاء إمَّا مأجورون، وإمَّا مغيَّبون لا يَعْلمون من دينِهم إلاَّ ما يصِفُه به أعداؤه. لا نُريد أن نعود إلى عصر الذُّل ثانيًا، لا نريد أن نُغذِّي أبناءنا بِما كان يغذِّينا به آباؤنا من الخوف والجُبْن، ولعلَّ عُذْر الآباءِ في الجيل السَّابق أنَّ الإعلام هو الذي كوَّن فِكرَهم، وكرَّس في عقلِهم ثقافةَ الخُنوع والذُّل، والخوفِ من انقطاع الرِّزق أو الأجَلِ إذا أنكَروا ظُلمَ أيِّ ظالِم، وليس هذا مُبَرِّرًا لهم، ولكن كان هذا هو الواقع. أمَّا جيلُنا، فما عذرُه إذا ترك الفرصةَ تضيع من بَيْن يدَيْه، وسمَح "لِلَّحظة الفارقة" أن تَذْهب وتتركه مكانَه، في مستنقَع الخوفِ والْهلَع، واليأسِ والقُنوط؟ لا نريد أن نَعود إلى عصر الاستِبْداد والبَطْش، ولا نريد لأولادِنا أن يُساموا بِمِثل ما سيم به جيلُنا، أمَا آن لنا أن نعيشَ أعزَّة، وأن "نَحْيا كِرامًا"! ولكن أبشِروا؛ فإنَّ احتِدام الظَّلام مُؤْذِن ببلوج نور الفَجْر؛ ليأتِي بعدَه ضوءُ الشَّمس في تدرُّجٍ وتَتابُع، حتَّى يعمَّ خيرُه الزَّرعَ والضَّرْع، والقاصِيَ والدَّانِي، وليَنام العاصون بانتهاء الظَّلام، حتَّى يبدأ الصَّالِحون والعاملون في أعمالِهم بِعزيمةٍ ونَشاط. [1] "مسند أحمد" (31/ 126)، و"سنن النسائي" (7/ 161)، وقال الشيخ الألباني: صحيح. [2] "السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية"؛ عبدالوهاب خلاف (1/ 33). [3] "صحيح مسلم" (1/ 74). [4] "شرح النووي على مسلم" (2/ 37). [5] "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 129). [6] "فتح الباري" لابن حجر (1/ 138). [7] يُراجَع في ذلك مقالٌ قيِّم للشيخ الدكتور/ محمد بن لطفي الصباغ، على شبكة الألوكة بعنوان: "إلى العلماء الصَّادقين عامَّة، وفي بلاد الشام خاصة". [8] أي: أُريد أن نَجلس وَحْدنا. [9] "صفة الصَّفْوة" (1/ 372). [10] "طبقات الشافعية الكبرى" للسُّبكي (8/ 211، 212)، بتصرُّف.